شهد الاقتصاد الوطني ولا يزال يشهد عاما بعد عام تغيرات جذرية، جاءت تحت مظلة عشرات المبادرات والبرامج التنفيذية لرؤية المملكة 2030، تستهدف الانتقال به من الاعتماد الرئيس على القطاع النفطي، إلى الاعتماد بدرجة أكبر في منظور العقود المقبلة على ركائز إنتاجية متنوعة، ولتحقق أمر كهذا المشروع العملاق المقدر بتريليونات الريالات، والمتطلب لموارد بشرية مؤهلة علميا وعمليا بأعداد هائلة، كان لا بد من وجود خريطة طريق ذات رؤية استراتيجية طويلة الأجل، وهو ما تمثل في رؤية المملكة كما أسلف ذكره.
تحمل رحلة الانتقال العملاقة أعلاه للاقتصاد الوطني تفاصيل لا حصر لها، إلا أن من أهمها في الفترة الراهنة ما يرتبط بإيجاد أو زيادة حجم ركائز النمو والتنويع الاقتصادي، المتمثلة في تحويل المقدرات والإمكانات والموارد المتوافرة من مجرد "موجودات" أو "موارد خاملة" إلى "ركائز منتجة"، مثال ذلك: تأهيل وتعليم وتدريب الملايين من الموارد البشرية، ليصبحوا مساهمين في سوق العمل المحلية، وهو الأمر الواضحة صورته لدى الجميع، ولا يحتاج إلى كثير من الاستطراد للتعريف بأهميته وعوائده التنموية والاقتصادية والاجتماعية.
المثال الآخر، إدخال الأراضي في مختلف قنوات الإنتاج الاقتصادي، والانتقال بها من مجرد الاكتناز والتملك دون أي انتفاع أو تطوير أو استخدام لعقود زمنية طويلة، وهو ما سبق الحديث عنه في أكثر من مقام ومقال سابق طوال الأعوام الماضية.
إن تسخير السياسات والبرامج الاقتصادية المتعددة في هذا المجال، يقوم على تحويل تلك المساحات الشاسعة من الأراضي اكتنازا دون انتفاع، وضخها في مختلف القنوات الإنتاجية والتنموية بشكل أوسع، فعدا أن وضعها "الخامل" تسبب في اجتذاب كثير من الثروات والمدخرات، بهدف المحافظة على قيمتها وتناميها عاما بعد عام! الذي أدى أولا، إلى تقليص نصيب القطاعات المنتجة من تلك الثروات والمدخرات، ما تسبب في بطء نموها واتساعها بما يلبي متطلبات تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، وبما يؤهلها لزيادة مساهمتها في الاقتصاد الكلي، وبما يؤهلها أيضا لزيادة فرص العمل أمام مئات الآلاف من الموارد البشرية المواطنة، ومثال ذلك تجده حاضرا في عديد من مجالات الاستثمار، حينما يفاضل أصحاب المدخرات بين الاستثمار في أي قطاع إنتاجي، أو ضخها في قطعة أرض في أي موقع من المواقع الموعودة بتنامي أسعارها دون بذل أي مجهود، فتجده وفقا لتحديات ومخاطر ومتطلبات أي الخيارين، يتجه نحو الخيار الأقل تكلفة ومخاطرة وجهدا "شراء قطعة أرض" والانتظار، دون النظر إلى الخيار الآخر! ويتحول الأمر إلى تحد تنموي أكبر متى غلب هذا السلوك على أغلب ذوي المدخرات والثروات، ورغم كل ذلك فلا يعد ذلك جرما إن حدث طالما أنه تم في سياق السياسات الاقتصادية القائمة.
ثانيا، لا تقف آثار اتجاه الثروات والمدخرات نحو المخزنات الخاملة إنتاجيا عند ما تقدم ذكره! بل تمتد إلى رفع تكلفة المعيشة والإنتاج على حد سواء، ففي الأعوام التي تتنامى خلالها أسعار الأراضي حاملة في أحضانها الثروات والمدخرات من جانب، سينعكس ذلك النمو في الأسعار على ارتفاع تكاليف المعيشة والإنتاج والتشغيل في الأجل الطويل، ويزيد من التحديات التنموية والاجتماعية على كاهل المنتجين والمستهلكين على حد سواء، وقد تتوقف نشاطات شريحة من المنتجين لارتفاع التكاليف مقابل الإيرادات، وتتقلص الوظائف ومن ثم تنعكس سلبا على المستهلكين الذين قد يفقدون وظائفهم ومصادر دخلهم.
وما سبق يأتي على العكس تماما من الحالة الصحية، المتمثلة في زيادة أسعار الأراضي نتيجة استخدامها في الإنتاج والتشغيل والاستهلاك، وهو الأمر المحمود بكل تأكيد!
تتبنى سياسات ومبادرات وبرامج رؤية المملكة 2030 إصلاحا جذريا لما سبق ذكره أعلاه، بالعمل على تطوير بيئة الأعمال والاستثمار المحلية، وتسخير الموارد والإمكانات لتسهيل تدفقات الأموال والثروات نحو الفرص الاقتصادية العملاقة محليا، التي تتكامل جهودها المبذولة عاما بعد عام لأجل تحفيز نمو واتساع ركائز الإنتاج والتشغيل "الاقتصاد المنتج"، وزيادة تسهيلات تدفقات الأموال والمدخرات بالاستثمار في تلك الفرص المنتجة، التي سينتج عنها اقتصاد كلي أكثر تنوعا ومتانة واستقرارا، وقدرة أكبر على توفير مئات الآلاف من فرص العمل المجدية، وهذا يقتضي بالتأكيد التضييق على القنوات أو السلوكيات التي اعتاد عليها أصحاب الثروات والمدخرات سابقا، لعل من أهم الأدوات في هذا المقام نظام الرسوم على الأراضي البيضاء، والانتقال فترة بعد فترة صعودا في مراحله التنفيذية، التي يؤمل أن ترتفع كفاءتها التحصيلية، ليزداد تأثيرها في ملاك الأراضي، ودفعهم بسرعة أكبر نحو الاستجابة للتحولات العملاقة التي يمر بها الاقتصاد الوطني، وبما يسهم بدرجة أكبر في تحقق المستهدفات الكلية والنهائية لرؤية المملكة 2030.
أختتم ما تقدم الحديث عنه أعلاه، بمثال بسيط عن مساحة كبيرة لإحدى الأراضي ارتفع سعرها عشرة أضعاف خلال عدة أعوام، دون أن يستخدم منها متر مربع واحد، والأرض نفسها بتوظيفها في أي من المشاريع الاقتصادية إنتاجيا أو في القطاع السكني.
كم ستكون العوائد على الاقتصاد والمجتمع في الحالة الأولى للأرض "الحالة الخاملة"؟ وكم ستكون عوائدها في الحالة الثانية باستغلالها إنتاجيا أو استهلاكيا؟ لا شك أن الإجابة عن أي من السؤالين السابقين من السهولة بمكان على الجميع، بما يسهل بدوره من فهم وإدراك أهمية المبادرات والبرامج التنفيذية لرؤية المملكة 2030، تحديدا في هذا الجانب التنموي المهم، والنظر من ثم إلى الأهمية القصوى التي حملتها التوجيهات السامية أخيرا، بالإعلانات الخيرة عن المشاريع العملاقة في الرياض "ضاحية الفرسان، ضاحية خزام، المربع الجديد/ داون تاون الرياض"، إضافة إلى ما سبقها من توجيهات كريمة ومبادرات عملاقة طوال الأعوام الماضية، وأنها تصب مجتمعة في اتجاه التطوير الشامل والمتكامل لكل مفاصل الاقتصاد الوطني، وصولا به إلى الموقع المستهدف له من رؤية المملكة 2030، واصطفافه عن جدارة واستحقاق بين أكبر وأهم 20 اقتصادا حول العالم، الذي لن يتأتى في أحد أهم مساراته إلا عبر الإسراع في الانتقال بأحد أكبر عوامل الإنتاج "الأرض"، من مجرد مخزن قيمة خامل إنتاجيا، لتكون ركيزة اقتصادية وتنموية، يتم استغلالها وتسخيرها في جميع القنوات المحلية للإنتاج والتشغيل والاستهلاك، وفقا لما تقتضيه احتياجات ومتطلبات الاقتصاد والمجتمع على حد سواء.
نقلا عن الاقتصادية