الآثار الإيجابية عقاريا لارتفاع الفائدة وتراجع القروض

01/02/2023 4
عبد الحميد العمري

سبق الحديث عن التوقعات المحتمل حدوثها على جميع الأسواق ونشاطات الاقتصاد، نتيجة الارتفاع المطرد لمعدل الفائدة، انطلاقا من العلاقة العكسية بين تغيرات معدل الفائدة من جهة، ومن جهة أخرى الأسواق والنشاطات، وأنها إحدى أقوى الأدوات التي تتحكم فيها البنوك المركزية في جميع الاقتصادات بهدف السيطرة على مستويات الأسعار، سواء عند اللجوء إلى خفض ذلك المعدل بهدف تحفيز الطلب المحلي في الاقتصاد، من خلال خفض تكلفة تدفق الأموال والسيولة في الاقتصاد، وفي الوقت ذاته مراقبة مستويات الأسعار "التضخم" بما لا يتجاوز النسبة المقبولة 2.0 في المائة.

والعكس صحيح أيضا في حال لجأ البنك المركزي إلى رفع معدل الفائدة إذا ارتفعت الأسعار "التضخم" إلى مستويات أعلى من 2.0 في المائة، بما سيترتب عليه رفع تكلفة التمويل والحصول على السيولة اللازمة، وهو ما حدث بصورة سريعة جدا خلال النصف الثاني من العام الماضي من أغلب البنوك المركزية في العالم، لمواجهة المستويات القياسية لمعدل التضخم الأعلى في منظور أكثر من أربعة عقود زمنية مضت، ومنها بالطبع البنك المركزي السعودي الذي انتهج وتيرة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نفسها، برفع معدلات الفائدة بنحو خمسة أضعاف خلال العام الماضي، ووصول الفوائد البنكية إلى أعلى مستوياتها خلال نحو 22 عاما مضت.

وبعيدا عن كثير من التفاصيل المرتبطة بالتطورات والمتغيرات التي عايشها الاقتصادان العالمي والمحلي خلال العام الماضي، المعلومة لدى أغلبية المتابعين والمختصين، وآثارها العكسية على النمو الاقتصادي العالمي وعلى عموم الأسواق المالية والعقارية والطاقة والمواد والسلع وأسعار الصرف، التي واجهت تقلبات حادة خلال العام الماضي لعوامل عديدة معلومة، إلا أن التحول المفاجئ والسريع لقرارات البنوك المركزية حول العالم بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، انطلاقا من رفع معدل الفائدة بوتيرة متسارعة للتصدي للتضخم المرتفع، كان من أهم مصادر الصدمات التي تعرضت لها الأسواق عموما، ومن ضمنها بالطبع الأسواق العقارية في أغلب الاقتصادات حول العالم، فوفقا لما أظهره أحدث البيانات الصادرة عن "بنك التسويات الدولية BIS" بنهاية الربع الثالث من 2022، سجلت الأسعار الحقيقية للعقارات السكنية انكماشا سنويا في نحو 62.1 في المائة من إجمالي الأسواق العقارية حول العالم، وتعد تلك النسبة هي الأعلى منذ نهاية الربع الثاني من 2012، كنتيجة مباشرة لارتفاع معدل الفائدة وانكماش السيولة في أغلب تلك الأسواق والاقتصادات، وانتقال أثره السلبي إلى قوة الطلب على العقارات السكنية بالانكماش، مقارنة بالفترات الماضية التي شهدت ارتفاعات غير مسبوقة على المساكن والعقارات طوال الأعوام الثلاثة الماضية التي سبقت منتصف 2022.

محليا، وقياسا على زيادة اعتماد السوق العقارية المحلية على التمويل العقاري الممنوح من القطاع التمويلي "المصارف، شركات التمويل"، ووصوله إلى مستويات قياسية خلال 2019 - 2022 ناهزت 519.3 مليار ريال كقروض عقارية جديدة ممنوحة للأفراد، أسهمت بدرجة كبيرة في اتخاذ الأسعار السوقية مسارا صاعدا طوال الفترة بمعدلات قياسية، ووصولها في أغلب المدن والمحافظات إلى أعلى من القدرة الشرائية لدى أغلبية المستهلكين، إلا أن استقرار معدلات الفائدة عند أدنى مستوياتها التاريخية طوال تلك الفترة، حفز الطلب من الأفراد، وحفز بدوره من نمو الأسعار بمعدلات قياسية، إلى أن اصطدمت السوق بالتغيرات الكبيرة على معدل الفائدة، التي اتخذت وتيرة متسارعة من الارتفاع تحديدا خلال النصف الثاني من العام الماضي، سرعان ما دخلت السوق العقارية في ركود لا يزال ممتدا لشهره الثامن تواليا، متأثرة بارتفاع الفائدة وما ترتب عليه من انكماش للتمويل العقاري للأفراد، وهو ما أكده انخفاض قيمة صفقات القطاع السكني خلال النصف الثاني من 2022 بـ34.4 في المائة، وانخفاض كل من عدد صفقات القطاع ومبيعاته للفترة نفسها بـ31.6 في المائة ونحو 31.7 في المائة حسب الترتيب.

وجاء أحدث بيانات البنك المركزي السعودي لكانون الأول (ديسمبر) 2022، ليؤكد حجم حقيقة تلك المتغيرات على نشاط السوق العقارية المحلية، بانخفاض حجم القروض العقارية الجديدة الممنوحة للأفراد من المصارف وشركات التمويل بمعدل سنوي قياسي بلغ 48.4 في المائة بنهاية ديسمبر 2022، مستقرة عند 6.6 مليار ريال كأدنى مستوى شهري لها منذ آب (أغسطس) 2019.

كما سجل إجمالي العقود التمويلية للفترة نفسها انخفاضا سنويا قياسيا وصلت نسبته إلى 47.4 في المائة، واستقر بدوره عند نحو 8.6 ألف عقد تمويلي، وهو أدنى مستوى شهري له منذ شباط (فبراير) 2019.

كما جاءت تطورات البيانات ذاتها على المستوى ربع السنوي في الاتجاه نفسه، حيث أنهت الربع الأخير من 2022 على انخفاض سنوي لحجم القروض العقارية الجديدة للربع السادس تواليا بنسبة قياسية وصلت إلى 36.0 في المائة، وانخفض إجمالي العقود التمويلية للربع السابع تواليا بنسبة قياسية وصلت إلى 35.6 في المائة.

أما على مستوى العام كاملا، فقد سجل حجم القروض العقارية الجديدة أول انخفاض سنوي له منذ بدأ نشر البيانات بـ21.1 في المائة، وانخفض أيضا إجمالي العقود التمويلية للعام الثاني تواليا 23.4 في المائة.

مما تقدم ذكره أعلاه، يمكن الاستنتاج من متغيرات عكست اتجاهاتها بدءا من النصف الثاني 2022 تحديدا حتى تاريخه، ممثلة في التراجع المستمر للتمويل العقاري، الناتج عن الارتفاع المطرد لتكلفة الرهن العقاري "الفائدة"، بموازاة التغيرات على واقع السوق العقارية المحلية من تضخم راهن للأسعار، وتراجع مستمر في الطلب "الركود"، إضافة إلى ارتفاع وتيرة ضخ الأراضي والعقارات، واتساع دائرة تنفيذ نظام الرسوم على الأراضي، والتطور المستمر في التشريعات واللوائح التنظيمية لتعاملات السوق، كل هذا يشكل إطارا إيجابيا متناميا للسوق في الأجلين القصير والمتوسط، وبالتأكيد سيكون أعلى كفاءة وجاذبية واستقرارا في الأجل الطويل، وهو الأمر الذي طالما نشده الجميع من السوق لتكون رافدا للنمو الاقتصادي، بعيدا عن أشكال الاحتكار والمضاربة، وبما يلبي احتياجات التنمية والمجتمع على قدر عال من التنافسية والكفاءة، وعدالة الأسعار، والجودة العالية للمنتجات، وهي المكتسبات التي استهدفت رؤية المملكة 2030 تحقيقها وترجمتها على أرض الواقع، ومن الجيد أن تبدأ بالتحقق بصورة ملموسة بدءا من العام الجاري، واستمرار تصاعد وتيرتها المتنامية طوال الأعوام المقبلة بمشيئة الله تعالى.

 

 

نقلا عن الاقتصادية