تزايد دلائل الركود الاقتصادي

15/01/2023 3
د. فهد الحويماني

لا تزال التوقعات قائمة بشأن الدخول في ركود اقتصادي هذا العام، إلا أن هناك تضاربا غير مسبوق في الأدلة المشاهدة، فهل سيأتي الركود أم لن يأتي؟ وهل سيكون ركودا تضخميا أم مجرد ركود عادي؟

عمليات الرفع المتسارع لمعدلات الفائدة من قبل الفيدرالي الأمريكي في 2022 بهدف السيطرة على التضخم من المفترض أن تؤدي إلى تراجع النشاط الاقتصادي، إلا أن ذلك لم يتحقق كما هو متوقع، فلا تزال المؤشرات تشير إلى قوة الطلب من قبل المستهلكين ولا تزال الأجور عالية، ولا تزال وتيرة التضخم عالية، على الرغم من انخفاض التضخم على أساس سنوي إلى 6.5 في المائة، الذي تم إعلانه الخميس الماضي. رفع معدلات الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس لأربع مرات على التوالي، ومن ثم تكملة ذلك بـ 50 نقطة أساس إضافية، من المفترض، بحسب استراتيجية مجلس الفيدرالي، أن يكون ذلك كفيلا بإيقاف تصاعد نسبة التضخم.

نسبة التضخم المعلنة الأخيرة تعني أن مستويات الأسعار اليوم أعلى بـ 6.5 في المائة عن مستوياتها بنهاية 2021، أي أن الأسعار ما زالت عالية وما زالت تتصاعد، لكن بوتيرة أقل من الأشهر القليلة الماضية. لذا فالمتفائلون يرون أن تراجع وتيرة الارتفاع يعد مؤشرا إيجابيا قد يقود مجلس الفيدرالي إلى التخفيف من قوة رفع معدلات الفائدة، وبالذات هؤلاء يعتقدون أن الفيدرالي ربما يرفع الفائدة بنهاية هذا الشهر بمقدار ربع نقطة مئوية فقط. الارتباك الكبير في ردة فعل أسواق الأسهم عقب إعلان نسبة التضخم يدل على عدم وضوح الرؤية وتباين التقديرات والتوقعات بين المستثمرين، لذا رأينا مؤشرات الأسهم خلال اليوم تتأرجح بين إفراط بالصعود وإفراط بالنزول، إلا أنها الخميس أغلقت على ارتفاعات متواضعة بحدود نصف نقطة مئوية.

من جانب آخر هناك من يصب تركيزه على سوق السندات لكون هذه السوق الكبيرة تعبر عن الحالة الاقتصادية بشكل أقوى من أسواق الأسهم، خصوصا في تفسير حركة منحنى عائد الاستحقاق للسندات الحكومية، حيث رأينا تراجعات قوية للسندات طويلة المدى، ما يدل على أن المستثمرين في سوق السندات يرون مستويات الفائدة للأعوام المقبلة أقل من التوقعات السابقة. الدليل على ذلك نجده في حدة انعكاس منحنى عائد الاستحقاق، حيث تراجع معدل الفائدة لعشرة أعوام بنحو 3 في المائة عقب إعلان نتيجة التضخم ليصبح العائد 3.45 في المائة، بينما كان 4.33 في المائة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

منحنى عائد الاستحقاق هو شكل بياني لمعدلات الفائدة على أدوات دين مختلفة، لفترات استحقاق تبدأ من شهر واحد إلى 30 عاما، والشكل الطبيعي لهذا المنحنى هو أن تكون معدلات الفائدة على المدى القصير أقل من معدلات الفائدة على المدى الطويل، ما يعني أن الاقتصاد يمر بمرحلة نمو طبيعية ولا يوجد هناك تخوف من تضخم غير عادي في الأسعار أو في معدلات البطالة وغيرها. حدث الاختلال في الشكل الطبيعي للمنحنى بدءا من منتصف 2022، إلا أن الانعكاس هذا الأسبوع يعد من أقوى الانعكاسات منذ عدة عقود.

حدة انعكاس المنحنى تتضح في السندات قصيرة الأجل التي تصل الفائدة فيها إلى أكثر من 4.8 في المائة لأذونات ستة أشهر، ما يعني أن أموالا كثيرة بدأت تخرج من السندات قصيرة المدى وتتجه إلى سندات بآجال أطول من ذلك، ومرة أخرى ذلك يشير إلى عدم اقتناع المستثمرين باحتمال الحصول على عوائد أعلى من نحو 3.5 في المائة على المدى الطويل، لذا فهم يشترون السندات الحالية ويضمنون معدلاتها الراهنة.

من الواضح أن هناك تغيرا في نظرة المستثمرين في أسواق السندات من الاهتمام بالسندات قصيرة المدى، التي عادة يلجأ إليها عندما تكون هناك ضبابية مستقبلية فتكون تلك الآجال القصيرة عبارة عن ملاذ آمن للأموال إلى أن تتضح الرؤية، واتجاههم إلى السندات ذات المدة الأطول يدل بشكل جزئي على أن هناك من يعتقد أن الرؤية اتضحت نوعا ما، وهي أننا مقبلون على ركود اقتصادي، وبالتالي لن يكون هناك رفع لمعدلات الفائدة، لكون الركود الاقتصادي يتطلب خفض معدلات الفائدة لا رفعها.

من المعروف أن انعكاس منحنى عائد الاستحقاق يؤدي في الأغلب إلى ركود اقتصادي، وهذا أمر مشاهد وحدث بالفعل قبل كل حالة ركود من حالات الركود الثمانية السابقة، لذا يؤخذ انعكاس المنحنى كدليل قوي من قبل كثير من الاقتصاديين والمحللين. لكن مرة أخرى هناك إشارات متضاربة هذه المرة، وهي السبب في الارتباك المشاهد على الساحة، منها عدم تراجع قوة الصرف من قبل المستهلكين وتماسك سوق العمل، ولا ننسى كذلك أنه تاريخيا يقع الركود بعد ظهور انعكاس المنحنى بفترات تراوح بين ستة أشهر وعامين، فلا يزال هناك متسع من الوقت لحدوث الركود.

مرة أخرى مشكلة الركود أنه يؤدي إلى تراجع النشاط الاقتصادي وانخفاض أرباح الشركات وتراجع أسهمها، وإذا كان مصحوبا بتضخم في الأسعار فالنتيجة تكون سيئة بشكل مضاعف. في حال تراجع النمو الاقتصادي في المرحلة المقبلة، فإن ذلك يؤثر سلبا في كثير من قطاعات الأسهم، بالذات أسهم التكنولوجيا وأسهم السلع الكمالية وأسهم السيارات وأسهم جميع الشركات التي تعتمد في مبيعاتها على الدخل الفائض لدى المستهلكين. أما إذا أتى تراجع النمو الاقتصادي مصحوبا بارتفاعات في مستويات التضخم وبالتالي ارتفاعات في معدلات الفائدة، فإن القطاع العقاري كذلك يتأثر بسبب إحجام الناس عن الشراء بسبب ارتفاع معدلات القروض العقارية.

 

 

نقلا عن الاقتصادية