اتسمت أغلب التوقعات المتعلقة بالاقتصاد العالمي في 2023 بعدم التفاؤل، وذهب أغلبها إلى احتمالية دخوله ركودا تضخميا، وأن تزداد الضغوط على مختلف الأسواق العالمية بدرجات متفاوتة، حسب اختلاف أنواع تلك الأسواق سواء من حيث الأصول أو من حيث المناطق الجغرافية، ويعزى كل ذلك إلى السياسات المتشددة التي بدأت البنوك المركزية في اتخاذها برفع معدلات الفائدة خلال 2022 تصديا للتضخم، وقد كشفت أحدث بيانات صادرة عن "رويترز"، عن قيام البنوك المركزية التي تشرف على أكثر عشر عملات تداولا في العالم، برفع معدلات الفائدة بإجمالي 2700 نقطة أساس من خلال 54 قرارا بالرفع خلال عام مضى، كما قررت البنوك المركزية في الأسواق الناشئة رفع معدلات الفائدة بنحو 93 مرة خلال الفترة نفسها، بإجمالي 7425 نقطة أساس، أي ما يعادل ثلاثة أمثال المسجل خلال 2021 عند 2745 نقطة أساس.
جاء الاندفاع المتشدد للبنوك المركزية خلال العام الجاري لمواجهة التضخم العالمي، وتجنبا لانعكاساته السلبية على الاقتصادات ومستويات الدخل، الذي كان قد سجل ارتفاعات مطردة في أغلب الاقتصادات حول العالم، ووصل إلى أعلى مستوياته خلال أكثر من أربعة عقود زمنية مضت، قدر خلال العام الجاري الذي لم يتبق على نهايته سوى ثلاثة أيام بأن يبلغ 8.8 في المائة عالميا، وأن يبلغ 7.2 في المائة في اقتصادات الدول المتقدمة، ويبلغ في اقتصادات الأسواق الصاعدة والدول النامية نحو 9.9 في المائة.
إجمالا، اجتمعت أغلب التوقعات المتعلقة بالعام المقبل حتى العام الذي سيليه حول اكتظاظه بكثير من التحديات، التي بدأ بعضها قبل 2022 وزادت خلاله عبر المستجدات التي حدثت فيه، بدءا من التفشي العالمي لكوفيد - 19 وما نتج عنه من اختلالات عميقة ضربت بآثارها في عديد من مفاصل الاقتصاد العالمي، ثم ارتفاع معدلات التضخم في أغلب الاقتصادات، ووصوله إلى أعلى مستوياته خلال الفترة الراهنة، نتيجة للتوترات الجيوسياسية وما ترتب عليها من تذبذبات حادة في أسواق الطاقة، والآثار السلبية في إمدادات أسوق السلع الأساسية، وصولا إلى التحرك المتشدد والمتسارع الوتيرة من قبل البنوك المركزية لمواجهة التضخم برفع معدلات الفائدة، كل تلك المتغيرات تشير إلى توقعات بأن يواجه الاقتصاد العالمي مزيدا من تلك التحديات خلال العامين المقبلين على أقل تقدير.
إن ما يزيد من حالة الضبابية التي يكتنفها مستقبل الاقتصاد العالمي في العام المقبل أو ما سيليه، هو عدم القدرة على التنبؤ بشكل دقيق لما ستسفر عنه الأوضاع الراهنة من مستجدات، سواء على مستوى نتائجها النهائية على مختلف الاقتصادات والأسواق، أو على مستوى النتائج المحتملة للسياسات التي اندفعت البنوك المركزية نحوها بصورة متشددة ومتسارعة، أو على مستوى ما قد يستجد من تحديات أخرى لا يمكن التنبؤ بها اليوم، تتعلق بالتوترات الجيوسياسية المحتملة في عديد من المناطق الجغرافية في روسيا وأوكرانيا، إضافة إلى ما يتعلق بالكوارث الصحية والبيئية والمناخية وانعكاساتها المحتملة عالميا، وهو ما بدأ العالم يلمس جزءا منه في الصين والولايات المتحدة وأوروبا.
أمام مثل هذه التوقعات غير المواتية للاقتصاد العالمي، سيكون الأحرى بكل دولة من دول العالم، أن ينصب السؤال في أي منها على مدى توافر القدرة والإمكانات والموارد اللازمة لدى كل دولة، إضافة إلى تحديد الجوانب والنشاطات الأكثر عرضة للمخاطر المتحملة من الأوضاع غير المواتية للاقتصاد العالمي، ومن ثم الاستعداد والتأهب وفق الموارد المتوافرة، وتسخيرها وفق كل دولة من الدول بناء على المجالات والنشاطات الأكثر عرضة لتلك المخاطر.
بالنظر إلى واقعنا محليا ولما يمثله اقتصادنا من ثقل في ميزان الاقتصاد العالمي، وأنه ليس في معزل عن تلك التطورات المحتملة عالميا، ودون إغفال ما أصبح يتمتع به من متانة وموارد كافية بحمد الله، إضافة إلى ما قطعه من خطوات استباقية على طريق تطوير هيكلته، والإصلاحات الكبيرة التي بدأ في تنفيذها منذ منتصف 2016 حتى تاريخه، ولا يزال العمل جاريا على استكمالها حتى نهاية 2030، تؤكد كل تلك المعطيات بالاعتماد عليها - بعد توفيق الله - على توافر المرونة للاقتصاد الوطني بقدر يتجاوز ما هو لدى أغلبية كثير من دول العالم، وبما يشير إلى امتلاك اقتصادنا خيارات أوسع وأفضل لامتصاص تلك التداعيات المحتملة، بل قد تتوافر فرص واعدة أمامه في ظل تلك التغيرات الاقتصادية العالمية، يمكن اقتناصها وتوظيفها في تعزيز الاستقرار الاقتصادي والتنموي، إضافة إلى خيارات الدخول في شراكات استراتيجية طويلة الأجل مع الاقتصادات الأسرع نموا حول العالم، سواء في شرق آسيا خصوصا، أو في أي منطقة أخرى من أنحاء العالم تتوافر لديها جاذبية فرص الاستثمار والشراكة ذات العوائد المجزية.
أثبتت التجارب السابقة التي خاضها اقتصادنا الوطني مع الأزمات التي مرت على الاقتصاد العالمي، أنه طالما خرج منها أقوى مما كان عليه قبل حدوثها بفترات زمنية متوسطة الأجل، كما أثبتت أيضا صلابته في مواجهتها وما الأزمتان المالية العالمية 2008 وكوفيد - 19 عنا ببعيد.
وكما سبق تأكيده في مجالات سابقة، فإن اقتصادنا الوطني يبرز وسط هذه التوقعات للاقتصاد العالمي غير المواتية كأحد أهم وأسرع الاقتصادات نموا وأكثرها استقرارا بفضل الله، ثم بفضل السياسات والبرامج والمبادرات العملاقة التي أوجدتها رؤية المملكة الاستراتيجية 2030 والتزمت بها طوال الأعوام الماضية، كان من ثمارها ونتائجها الإيجابية ما أصبحت تحظى به خلال الفترة الراهنة من استقرار وطيد، وقدرة عالية على التكيف والتعامل مع المتغيرات الدولية غير المستقرة، بل أصبحت الشريك الاقتصادي والاستثماري والتجاري الذي تبحث عنه أغلب الاقتصادات حول العالم، وكل هذا مما يبعث بفضل الله على مزيد من الثقة بالاقتصاد الوطني، وبقدرته على مواصلة مسيرته الطموحة والمتحفزة لمزيد من تحقيق مستهدفات رؤيتها الاستراتيجية 2030.
نقلا عن الاقتصادية