أظهر أحدث بيانات بنك التسويات الدولية BIS، مطلع الأسبوع الجاري، زيادة أعداد الأسواق العقارية في مختلف دول العالم "58 سوقا عقارية"، التي سجلت انخفاضات سنوية بأسعار المساكن فيها مع نهاية الربع الثاني من العام الجاري، إلى 25 سوقا عقارية، مقارنة بـ16 سوقا خلال الربع الأول من العام نفسه، ومقارنة بـ11 سوقا خلال الربع الثاني من العام الماضي. وارتفعت على أثر ذلك نسبة الأسواق الخاسرة إلى إجمالي الأسواق العقارية حول العالم إلى 43.1 في المائة، مقارنة بنسبتها 27.6 في المائة خلال الربع الأول 2022، وبنسبة 19.0 في المائة خلال الربع الثاني من العام الماضي، وتعد النسبة التي سجلتها الأسواق العقارية الخاسرة المسجلة بنهاية الربع الثاني من العام الجاري الأعلى منذ الربع الثالث 2013.
وكما سبقت الإشارة إليه مع ظهور هذه المستجدات غير المفاجئة لأداء الأسواق العقارية، كنتيجة متوقعة لبدء البنوك المركزية برفع معدلات الفائدة في دولها لمواجهة الارتفاع المطرد لمعدل التضخم، فإنها جاءت بعد موجة ارتفاع كبيرة كانت قد سجلتها أسعار المساكن حول العالم خلال عامي 2020 - 2021، وعدت الارتفاعات الأعلى في مستوياتها منذ الأزمة المالية العالمية 2008، وقف خلفها عديد من العوامل، كان من أهمها الانخفاض الكبير في معدلات الفائدة، وما نتج عنه من ارتفاعات قياسية في مستويات الائتمان العقاري، واستفادة الأسواق عموما من التيسير الكمي غير المسبوق الذي تم ضخه من قبل البنوك المركزية حول العالم في مواجهة تداعيات الجائحة العالمية لكوفيد - 19 إلى أن بدأ رحلة عكسية بدءا من منتصف الربع الأول من هذا العام، اندفعت خلالها أغلب البنوك المركزية في وتيرة متسارعة نحو رفع معدل الفائدة والتشديد النقدي.
وبالنظر إلى النتائج الأخيرة التي حملتها بيانات الـ BIS، واتساع دائرة تصحيح أسعار العقارات السكنية في 25 بلدا، فإنها لا تتجاوز مجرد كونها بداية لرحلة قد يطول مداها الزمني عدة أعوام مقبلة، بما يعكس تأثر تلك الأسواق بالسياسات الحازمة التي بدأت تنتهجها البنوك المركزية، وهو ما سبقت الإشارة إليه في مقال سابق، والتأكيد فيه أن البداية الفعلية لتأثر الأسواق العقارية قد لا تبدأ إلا مع نهاية العام الجاري، وأن تصبح ملموسة بدرجة أكبر مع مطلع العام المقبل وما سيليه من فترات تتزامن مع وصول معدلات الفائدة إلى ذروتها المستهدفة من البنوك المركزية.
على المستوى المحلي، لا تزال المستويات المرتفعة لأسعار مختلف الأصول السكنية متماسكة، رغم الركود العقاري الذي يسيطر خلال الفترة الراهنة على القطاع السكني تحديدا، بانخفاض مبيعاته خلال العشرة أشهر من العام الجاري بنحو 22.0 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وتأثرها بالتراجع في حجم القروض العقارية السكنية، التي سجلت انخفاضا سنويا عن التسعة أشهر من العام الجاري بنسبة 16.4 في المائة، وانخفاضا في عدد عقودها التمويلية للفترة نفسها بنسبة 19.7 في المائة، وقد لا تبدأ استجابة السوق المحلية للمتغيرات الراهنة من الارتفاع المطرد لمعدل الفائدة، الذي وصل حتى تاريخه إلى أعلى مستوياته في منظور 17 عاما مضت، والتباطؤ المتسارع في حجم القروض العقارية للأفراد نتيجة ارتفاع تكلفة الرهن العقاري وما يقابله من تماسك للأسعار المتضخمة، إضافة إلى استمرار ضخ الإصلاحات الهيكلية على السوق المحلية، وزيادة المعروض من المنتجات العقارية السكنية باختلاف أنواعها، إلا مع نهاية العام الجاري أو مطلع العام المقبل كبداية يمكن معها مشاهدة تأثر الأسعار بتلك المتغيرات، علما بأن عديدا من المواقع العقارية التي اتسم أغلب التعاملات فيها بالمضاربة على الأراضي فيها، وتحديدا في الأطراف البعيدة للمدن الرئيسة، قد بدأت عمليات تصحيح الأسعار فيها بمعدلات وصلت إلى أعلى من 30 في المائة وفقا لأحدث بيانات وزارة العدل، وقد تشهد تلك المواقع المضاربية مزيدا من عمليات تصحيح الأسعار، خاصة مع ارتفاع معدل الفائدة إلى مستويات أعلى مما وصلت إليه حتى تاريخه كما هو متوقع، وتزايد قنوات الاستثمار البديلة ذات العوائد المجزية بمعدلات سنوية تتجاوز 6.0 في المائة، كالصكوك وأدوات الدين الحكومية ومن القطاع الخاص، إضافة إلى زيادة آثار الإصلاحات الجارية على السوق العقارية "نظام الرسوم على الأراضي البيضاء".
ختاما، كما سبق تأكيده في أكثر من مقال وتقرير، فإن جانب التصحيح الراهن والمتوقع على أسعار العقارات والمساكن عموما في مختلف الأسواق حول العالم، يعد ظاهرة اقتصادية بحتة مقترنة بالتغيرات الاقتصادية والمالية الجارية على أهم العوامل المؤثرة في أداء الأسواق عموما، وفي مقدمتها التغيرات في معدلات الفائدة المرتبطة بتحديد تكلفة رؤوس الأموال وحجم التمويل، وحينما يبدأ تأثيرها في السوق المحلية، فلا يتجاوز كونها جزءا من هذه الظاهرة الاقتصادية البحتة، وبحال وقوعه كنتيجة طبيعية لتلك المتغيرات، فهو في الأغلب يعد أمرا صحيا ومفيدا للاقتصادات والأسواق على حد سواء، خاصة بعد موجة الارتفاع القياسية التي شهدتها أسعار العقارات والمساكن خلال الأعوام الأخيرة، وجاءت آثارها عكسية وسلبية على أغلب المستهلكين في تلك الدول، وهذا من ضمن مستهدفات البنوك المركزية حول العالم، أن تعمل على استقرار أسواقها المحلية، والمحافظة على استقرار الأسعار ومكافحة معدلات التضخم المرتفعة، ويعد تضخم أسعار المساكن أحد أكبر مغذياتها، وينتظر - بمشيئة الله تعالى - أن تشهد تلك الأسواق تحسنا يخدم احتياجات المستهلكين، ويلبي متطلباتهم التنموية في شأن تملك المساكن، الذي تم تحقيق كثير من منجزاته - بحمد الله - خلال الأعوام الأخيرة، ويؤمل مع تراجع الأسعار عن مستوياتها المرتفعة الراهنة، أن تتسارع تلك المنجزات بوتيرة أسرع وأكبر.
نقلا عن الاقتصادية