في الوقت الذي يواجه الاقتصاد العالمي تحديات جسيمة قياسا على الأوضاع بالغة التعقيد الراهنة والمتصاعدة وتيرتها فترة بعد فترة، للأسباب والعوامل المعلومة لدى أغلبية المراقبين والمختصين، "الاضطرابات الجيوسياسية، وسياسات التشديد الصادرة عن البنوك المركزية"، وما أفضت إليه من صعود توقعات دخول معظم الاقتصادات المتقدمة في ركود تضخمي خلال الفترة التي تبدأ من مطلع العام المقبل حتى منتصفه، وما سيتزامن معه من ارتفاع معدل البطالة في تلك الدول، إضافة إلى بطء انسحاب التضخم الأكبر فيها خلال أكثر من أربعة عقود زمنية مضت، ودون إغفال الاضطرابات الداخلية المحتملة فيها، التي بدأت مشاهدها تظهر على السطح بشكل لافت في منطقة اليورو وفي الولايات المتحدة، وعديد من دول الأسواق الناشئة، ويتوقع أن تتفاقم بصورة أوسع وأعمق خلال العام أو العامين المقبلين، أمام ذلك المشهد العالمي المتوشح بكثير من الضبابية، نجد أن الصورة محليا وعلى مستوى اقتصادات دول مجلس التعاون مختلفة، بحمد الله، إلى حد بعيد جدا، وفي المملكة تبتعد بدرجات فارقة عكسها النمو الاقتصادي القياسي حسب أحدث البيانات المحلية، ويتوقع أن تستمر في تلك الوتيرة القوية من النمو المطرد حتى نهاية العام الجاري، وأن تظل كذلك حتى بالتزامن مع تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي.
أسهمت الإصلاحات الاقتصادية العملاقة التي اتخذتها المملكة منذ منتصف 2016 وما زالت قائمة، في تأسيس وإيجاد هذه الخطوات الفارقة، ودفع استمرار ضخ تلك الإصلاحات والمبادرات الطموحة التي كانت آخرها الاستراتيجية الوطنية للصناعة، في تذليل كثير من التحديات أمام تقدم ونمو الاقتصاد الوطني، ومنحته قوة أكبر نحو الصعود إلى مستويات من التوسع والنمو القياسي، على الرغم من الظروف غير المواتية عالميا، لم يكن بالإمكان الوصول إليها، لولا توفيق الله، ثم بفضل تلك الإصلاحات الجذرية التي تم إقرارها منذ أكثر من ستة أعوام مضت، وما زالت تتدفق على الهيكل الاقتصادي بمختلف نشاطاته وقطاعاته.
أمام هذه المتغيرات المتباينة كثيرا، بين ظروف غير مواتية يواجهها الاقتصاد العالمي، وأخرى مختلفة تماما على المستوى المحلي، يبرز الجانب التنموي ممثلا في نمو الوظائف وتوطينها في سوق العمل المحلية، وفي القطاع الخاص خصوصا، وأن تتضافر الجهود بصورة أكبر وبوتيرة مستمرة، استهدافا لإيجاد مزيد من فرص العمل وتوطينها كخيار استراتيجي إلزامي أمام أرباب العمل لا ينافسه أي خيارات أخرى، فتكون الحصة الأكبر للموارد البشرية المواطنة قبل أي فئات من العمالة الوافدة، فتضاف تلك الجهود المأمولة إلى ما تم إنجازه والنجاح فيه منذ مطلع النصف الثاني من 2021 حتى تاريخه، الذي تضافر خلف تحققه بهذه الصورة الملموسة التي انعكست على معدل البطالة بالانخفاض اللافت خلال أقل من 12 شهرا متتاليا، والتحسن المطرد في الأداء الاقتصادي المحلي، وعودة التعافي إلى أغلب نشاطات الاقتصاد الوطني، إضافة إلى التطوير الكبير الذي أحدثته وزارة الموارد البشرية على برامج التوطين المتنوعة والمتخصصة، ما نتج عنه - بحمد الله - انخفاض معدل البطالة بين المواطنين إلى أدنى مستوى له في منظور عقدين من الزمن، وقابله في الوقت ذاته تصاعد معدلات التوظيف والتوطين، ووصول معدل نموه السنوي في القطاع الخاص إلى 17.4 في المائة، دفع به إلى المساهمة بنحو 89 في المائة من صافي زيادة الوظائف للمواطنين في سوق العمل خلال الفترة من نهاية الربع الثاني 2021 حتى نهاية الربع الثاني 2022.
إنه إثبات من أرض الواقع على ارتفاع إمكانات إنجاح المشاريع التنموية التي تنشد رفع فرص العمل أمام الموارد البشرية المواطنة، وتأكيد راسخ أن الجهود المأمولة لتوفير المحفزات اللازمة لنمو الوظائف وتوطينها، خاصة في منشآت القطاع الخاص على حساب أي خيارات أخرى قد توجد لدى أرباب العمل، يمكن أن توسع دائرتها وتستمر على مستويات أكبر وأعمق، سيوفر النجاح في مضمارها مزيدا من فرص العمل اللازمة أمام الباحثين عنها من أبنائنا وبناتنا الذين يمتلكون التأهيل العلمي والعملي على حد سواء، كما أنه سيكون متضافرا بدرجة كبيرة جدا مع الجهود الراهنة التي بذلتها وتبذلها وزارة الموارد البشرية، التي كان من أقرب ثمارها ارتفاع مساهمة العمالة المواطنة في القطاع الخاص إلى نحو 2.1 مليون مواطن ومواطنة كأعلى مساهمة، وانخفاض معدل البطالة إلى 9.7 في المائة كأدنى معدل خلال 20 عاما مضى.
لقد تمتعت تلك البرامج والمبادرات على مستوى التوطين بالديناميكية اللازمة المتوائمة مع متغيرات النشاط الاقتصادي عموما، ومع بيئة سوق العمل المحلية تحديدا، وبما يؤكد أيضا أهمية استمرار تلك البرامج والمبادرات الخاضعة للتطوير فترة بعد فترة، وتزامنها مع المتغيرات الاقتصادية وفي سوق العمل، أخذا في الحسبان عديدا من الجوانب ذات العلاقة بضرورة المحافظة على استقرار القطاع الخاص وإمكانية نموه مستقبلا، بما يلبي تطلعات أربابه، إضافة إلى تطلعات الاقتصاد الوطني.
ختاما، يتوافر لما ينشده الجميع من متطلبات تنموية بضخ مزيد من فرص العمل أمام الموارد البشرية المواطنة، كثير من الإمكانات والموارد اللازمة، وتتوافر المبادرات والبرامج اللازمة التي أوجدتها وزارة الموارد البشرية ولا تزال تدشنها من فترة إلى أخرى، ولا يتطلب الأمر أكثر من مزيد من الحزم وتكامل الجهود من قبل جميع الأطراف في كل من القطاعين الحكومي والخاص، لأجل القفز بمزيد من حظوظ العمالة المواطنة للفوز بحصة الأسد في سوق العمل المحلية، التي باستدامتها وتناميها طوال العقد الزمني المقبل، يمكن ترجمتها كاملة على أرض الواقع، التي ذكرت جزءا من صورتها الكاملة أخيرا الاستراتيجية الوطنية للصناعة، وتم التطرق إلى صورتها الشاملة في المقال الأخير بإمكانية الوصول بمشاركة العمالة المواطنة في القطاع الخاص إلى أعلى من 6.3 مليون عامل وعاملة بحلول 2035.
نقلا عن الاقتصادية