هذه المقولة العبقرية التي قالها سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – للصحابة الكرام حينما اختلفوا في تقسيم أرض العراق المعروفة بالسواد1 على الفاتحين المنتصرين باعتبارها غنيمة غنموها بسيوفهم، تحمل في طياتها بعدًا اقتصاديًا استراتيجيًا نحن في أمس الحاجة إليه في زماننا الحالي، الذي غلب عليه طابع الإسراف في الاستهلاك الضروري، والتبذير في الصرف على الكماليات، واستخدام الموارد في مشاريع عملاقة دون جدوى اقتصادية بغرض الظهور والتباهي.
البعد الاقتصادي لما لمن جاء بعدكم
تميز أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بالنظرة الاستراتيجية البعيدة الأفق، فكان يحكم لعهده، ويفكر في من سيأتي من بعده من أمراء للمؤمنين ومن أفراد في الأمة الإسلامية، يتضح هذا من رسالته التي بعث بها إلى سعد بن أبي وقاص يوم افتتح العراق، حيث جاء فيها: "أما بعد، فقد بلغني كتابك، تذكر أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم، وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فأنظر، ما أجلبَ الناس عليك به إلى العسكر من كراع2 أو مال، فأقسمه بين من حضر من المسلمين، وأترك الأرضين والأنهار لعمالها، ليكون ذلك أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها فيمن حضر لم يكن لم يجيء بعدهم شيء"، وقال أيضًا: "لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية ألا قسمتها كما قسم رسول االله صلى االله عليه وسلم"، وقال: "أخشى أن يبقى آخر الناس لا شيء لهم".
كانت رؤيا عمر بن الخطاب أن هذه الأرض الشاسعة والكبيرة المساحة إن قسمت على الجند ومن حضر في العراق لم يكن لمن جاء من بعدهم شيء وخاصة أبناء الفلاحين والعمال القائمين على الأرض، فقد عد الخليفة هذه الأرض حقًا لكل المسلمين إلى يوم يبعثون وليس فقط لمن عاش في عهد عمر، يقول القاضي أبا يوسف في كتابه الخراج3: أن الصحابة أكثَروا في مراجعة عمر – رضي الله عنه – وقالوا: أتقِفْ ما أفاء الله علينا وبأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا، فكان عمر بن الخطاب لا يزيد على أن يقول: هذا رأيي، قالوا: فاستشر، فاستشار واستمر النقاش والمشاورة ما بين يومين أو ثلاثة أيام إلى أن هداه الله إلى آيات الفيء، حيث قال تعالى: "مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" الحشر 7-10.
لقد رأى عمر – رضي الله عنه – أن في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ" أنَّها تستوعب جميع المسلمين إلى يوم القيامة؛ لذا فإن المسلمين جميعهم لهم حق في هذا الفيء، ولم يكتف بأن قدم لهم الدليل الشرعي الذي يؤيد رأيه، فقدم لهم بيان بالأهداف والمصالح الاقتصادية التي ستتحقق من تطبيق هذا الرأي فقال: قد سَمِعْتُم كلامَ هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلمًا، لئن كنت ظلمتهم شيئًا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى وقد غَنَمَنا اللهُ أموالهم وأرضهم وعلوجهم1، فقسمتُ ما غنموا من أموال بين أهله وأخرجتُ الخمس فوجَّهْتُه عَلَى وجهه وأنا فِي توجيهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئًا للمسلمين؛ المقاتلة والذرية ولمن يأتي من بعدهم، وأستطرد قائلًا: أرأيتم هذه الثغور لابد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام – كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر – لابد لها من أن تُشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يُعطى هؤلاء إِذَا قُسِّمت الأرضون والعلوج؟ فقالوا جميعًا: الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت، وبهذا يكون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اكتفى بتقسيم الأموال المنقولة كالماشية والمال والسلاح، وأبقى على الأصول الثابتة التي تمثل استثمارات رأسمالية تدر إيراد دائم يستخدم في تغطية أوجه الصرف المختلفة للدولة.
القواعد الاقتصادية المستمدة من آيات الفيء
آيات الفيء التي أستدل بها أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – على صحة رأيه في عدم توزيع مليكة الأرض على الصحابة الفاتحين، والإبقاء على ملكيتها لمجموع الأمة الإسلامية في سائر أجيالها، تذخر بالقواعد الاقتصادية، وهذا بلا شك من توفيق الله لعمر – رضي الله عنه – كما قال الإمام أبو بوسف، فآية تحض على توزيع الثروات والدخول على الفئات الضعيفة والمحتاجة في المجتمع قال تعالى: "مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ" واختُتِمت الآية ببيان الهدف السامي من التوزيع على هذه الفئات بقوله تعالى: "كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ" الحشر 7، فالملكية الفردية معترف بها ومصانة من الاعتداء عليها، ولكنها محددة بهذه القاعدة التي تحقق التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع، فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية، كما يخالف هدفًا من أهداف النظام الاجتماعي كله، وهذه القاعدة سبقت ما نادى به – بعد قرون طويلة – دعاة العدالة الاجتماعية. وآية تقرر التوزيع العادل للفيء فجعلت نصيبًا فيه للجيل الحاضر من المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وصودرت أموالهم، ومن الأنصار الذين فتحوا صدورهم ودورهم لإخوانهم المهاجرين قال تعالى: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" الحشر 8، 9.
وآية أشركت مع هذا الجيل الذي بذل وضحى أجيالًا أخرى عبر عنهم الله سبحانه وتعالى بقوله: "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" الحشر 10، وهذه الآية تقرر أن الأمة المسلمة كلها وحدة متكاملة على اختلاف الأمكنة وامتداد الأزمنة وأنها – على مر العصور – حلقات متماسكة، يعمل أولها لخير آخرها، ويغرس سلفها ليجني خلفها، فهي أمة ممتدة يُكمل آخرها ما بدأه أولها، لا مجال فيها للاختلاف أو الفجوة بين الأجيال، فالخلف يفخر ويقدر ما فعله السلف، فيستغفر الجيل اللاحق للأجيال السابقة1، ولا يلعن آخر الأمة أولها كما تفعل الأمم الكافرة قال تعالى: "قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ" الأعراف 38.
ما لمن جاء بعدكم استراتيجية لتغيير واقعنا الاقتصادي
قد يقول قائل ما لمن جاء بعدكم قيلت في زمان كان فيه المسلمين أقوياء يقومون بالفتوحات ويتحقق لهم الغنيمة والفيء، أما الآن فالواقع قد تغير وأصبح المسلمين مستضعفين يُعتدى عليهم في مشارق الأرض ومغاربها وتنهب ثرواتهم فلا مجال لتطبيقها على واقعنا الاقتصادي المعاصر، والحقيقة أن العبرة ليست في الكلمات أو القرار المتعلق بحادثة محددة في زمن معين، وإنما العبرة في القواعد الاقتصادية الأساسية المُستمدة من هذه الكلمات وفي المصالح المتحققة من تفعيلها، وهي قواعد عامة وليست خاصة، والمصالح المتحققة منها عظيمة للأمة كلها وليس لمجموعة من الأشخاص، وهذه القواعد والمصالح لها صفة الثبات وعدم التغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص، لذا يمكن تفعيلها لحل المشاكل الاقتصادية المعاصرة.
فحينما ننظر إلى دول أمتنا الإسلامية ونرى حجم الدمار والخراب والانهيار الاقتصادي في سوريا والعراق واليمن وليبيا نتيجة الاقتتال والصراعات بين أطراف من الجيل الحالي، عندها نعرف أن ثروات ومقدرات الجيل الحالي والأجيال القادمة قد تبخرت، هنا لا بد أن نقول ما لمن جاء بعدكم، حينما تستخدم الدول ثرواتها بطريقة جائرة تُؤثر منفعة الجيل الحالي على حساب التضحية بمصالح ومنافع الأجيال اللاحقة، وحينما تُهدر الدول مواردها الضخمة بالصرف على مشروعات كمالية وتحسينية لتحقيق الرفاهية لفئات محدودة من الجيل الحالي، وتتغافل عن المشاريع الحياتية الضرورية لغالبية فئات الجيل الحالي والأجيال اللاحقة، هنا لا بد أن نقول ما لمن جاء بعدكم.
أخيرًا وليس آخرًا حينما يورث هذا الجيل للأجيال اللاحقة ميراثًا ثقيلًا من الديون التي أُنفقت على مشاريع غير إنتاجية، ولا تدر عائد يسدد أقساط هذه الديون وفوائدها، هنا لا بد أن نقول ما لمن جاء بعدكم.
هكذا نجد أن اتباع استراتيجية ما لمن جاء بعدكم تؤدي إلى تغيير الكثير من السياسات الاقتصادية للأفراد والدول والأمة إلى الأصلح فتتحقق الحياة الطيبة لهذا الجيل قال تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" النحل 97، وفي نفس الوقت يتم الحفاظ على حق الأجيال اللاحقة في الثروات التي تحقق لهم الحياة الطيبة، وبذلك تحظى أجيال الأمة المتعاقبة بشرف قوله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" الحشر 10.
مقالة رائعة وفيها عبر ونظرة أقتصادية اسلامية خرجت عن الاطار التقليدي لكثير من المقالات التي نقرئها كل يوم، بارك الله فيك ورحم الله سلفنا الصالح ومنهم الفاروق عمر بن الخطاب رحمة واسعة والحقنا بهم في جنات النعيم.
آمين، وجزاك الله خيراً