البنوك المركزية تكشر عن أنيابها

31/08/2022 0
عبد الحميد العمري

"البنك المركزي سيستخدم كل ما في جعبته للسيطرة على ارتفاع الأسعار، والوصول إلى مستهدفات التضخم حول 2.0 في المائة"، بهذه العبارة الصريحة استهل جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، حديثه في مؤتمر صحافي له قبل نهاية الأسبوع الماضي، وعاد إلى تأكيده مجددا في منتدى السياسة النقدية السنوي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في مدينة كانساس في جاكسون هول في ولاية وايومنغ الجمعة الماضي، وأن الاحتياطي الفيدرالي سيواصل رفع أسعار الفائدة واستمرارها كذلك لفترة من الوقت للحد من التضخم، واضعا بذلك عنوانا رئيسا لمنهجية "الفيدرالي" خلال الأشهر المقبلة، أنها ستسير تحت سياسة نقدية قائمة على التشديد النقدي القوي.

أدرك الاحتياطي الفيدرالي متأخرا "خطأ" تقديراته السابقة في 2021 بأن التضخم الذي بدأت تلوح راياته في الأفق -آنذاك- مجرد "تضخم عابر ومؤقت"، ليجد نفسه قبل نهاية الربع الأول من العام الجاري أمام خيارات أصعب مما سبق، فالتضخم وصل إلى أعلى مستوياته خلال أكثر من 42 عاما مضى، والانكماش الاقتصادي تأكد خلال الربع الأول، وعاد مجددا ليؤكد وجوده مع صدور بيانات الربع الثاني، ليندفع نحو رفع معدل الفائدة بوتيرة متسارعة، وتجاوز في آخر قرارين له سقف توقعات الأغلبية بالرفع بـ75 نقطة أساسية على التوالي، التي علق عليها جيروم باول لاحقا بالقول "إن اللجنة لن تتردد في الاستمرار في رفع الفائدة كلما اقتضى الأمر ذلك، وهو ما يتوقف على البيانات الاقتصادية التي ستعلن خلال الفترة المقبلة التي ترتبط بمعدلات التضخم والتوظيف والإنفاق الاستهلاكي، وأن خطة رفع الفائدة خلال المرحلة المقبلة سيتم رسمها بكل اجتماع على حدة، ومن غير المستبعد أن يتم رفع أسعار الفائدة بنسبة أكبر إذا اقتضى الأمر ذلك".

تقوم أغلب السياسات النقدية للبنوك المركزية على استهداف التضخم، وألا يتجاوز 2.0 في المائة كعنوان للاستقرار الاقتصادي عموما، وأن تجاوزه ذلك المعدل سيعني تفاقم الاختلالات في الاقتصاد الكلي، وانفتاح الباب أمام كثير من الأزمات الاقتصادية والمالية التي سيدفع الاقتصاد الكلي ثمنا باهظا لها، في حين أن نجاح أي بنك مركزي في السيطرة على مستويات الأسعار، وتمكنه من الإبقاء على معدل التضخم دون المستهدف "2.0 في المائة"، سيعنيان أن نشاطات الاقتصاد الكلي تسير وفق منظومة متوائمة ودون اختلالات في الأجلين المتوسط والطويل، وإن نشأت تحديات اقتصادية من أي نوع، كارتفاع معدل البطالة أو تباطؤ النمو أو خلافه، فإن بإمكان السياسات الاقتصادية، ومنها النقدية بالطبع، ستكون لديها القدرة على التكيف وإيجاد الحلول الآنية المناسبة حسب نوع وحجم تلك التحديات أو الأزمات قصيرة ومتوسطة الأجل.

مما سبق، تتأكد المخاطر العالية جدا من وجهة نظر البنوك المركزية حينما يتجاوز معدل التضخم سقف 2.0 في المائة، وتتأكد تلك المخاطر بوتيرة أعلى لدى تلك البنوك، بحال وصل ذلك المعدل إلى مستوياته الراهنة التي تجاوزت كثيرا ذلك المعدل المستهدف، وفي بعض الاقتصادات وصلت إلى مستويات قياسية لم يسبق لها مثيل خلال أكثر من نصف قرن مضى. بناء عليه، لا غرابة بعدئذ أن تكشر البنوك المركزية عن أنيابها، وفي مقدمتها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فتقوم باستخدام أدواتها واتخاذ جميع التدابير التي لديها لكبح جماح التضخم، وقد تجدها تغامر في هذا المسار متى كانت هي نفسها أحد أسباب ارتفاع معدل التضخم، نتيجة لسياسات التيسير الكمي التي أفرطت في الاعتماد عليها طوال أكثر من عقد زمني مضى، تحديدا من بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، وتأكدها من أن السماح بارتفاع معدل التضخم وعدم مواجهته، من شأنه أن يقود الاقتصادات والأسواق إلى الغوص عميقا في محيط من الأزمات الحادة التي لا يمكن تقدير حجم خسائرها وآثارها المدمرة بأرقام الفترة الراهنة، وهو الدافع الحقيقي الذي يقف خلف التشدد الراهن الذي بدأت تظهره البنوك المركزية بقيادة الاحتياطي الفيدرالي، واعتبارها لأي انعكاسات قصيرة أو متوسطة الأجل كالركود الاقتصادي وارتفاع معدل البطالة ودخول الأسواق عموما في موجة هابطة قد تمتد أشهرا طويلة، كل هذا تعتقد تلك البنوك أن آثاره مهما بلغت لا تقارن على الإطلاق بما سيؤدي إليه السماح لمعدل التضخم بمزيد من الارتفاع، وخروجه عن السيطرة، والتسبب في حدوث ما لا يمكن للاقتصاد العالمي النجاة منه لعقود زمنية طويلة.

لقد صرح أكثر من رئيس بنك مركزي، أن لا أحد من البنوك المركزية يريد الإضرار بالاستقرار والنمو والمحافظة على الوظائف، إنما إذا وصل معدل التضخم إلى المستويات التي تهدد تلك الاعتبارات المهمة في الأجل الطويل، فلا بد من التدخل بكل أدواتها المتاحة لمنع ذلك، وإن ترتب عليه بعض الآلام الاقتصادية والاجتماعية في الأجلين القصير والمتوسط، وهنا يكمن الفرق الكبير في تفسير لماذا انقلبت السياسات النقدية وتوجهات البنوك المركزية 180 درجة خلال الأشهر القليلة الماضية؟! وإذا ما أضيف إلى هذه الرؤية المخاطر العالمية الأخرى من نزاعات عسكرية وما ترتب عليها من عقوبات، إضافة إلى أزمات المناخ القاسية من جفاف غير مسبوق في دول، وفيضانات غير مسبوقة في دول أخرى، وحرائق ضخمة في عديد من الغابات حول العالم، وما قد يترتب عليها من مجاعات وانتشار للأوبئة، فسيجد الجميع أن البنوك المركزية والأجهزة الاقتصادية من حولها، ستكون مضطرة إلى اتخاذ تدابير وقرارات وإجراءات استثنائية لامتصاص تداعيات تلك الأزمات، والعمل المستمر على مواجهتها بجميع الأدوات والموارد المتاحة والممكنة، ولا يوجد حتى تاريخه تصور نهائي لما ستسفر عنه تلك المواجهات من الحكومات وبنوكها المركزية ضد تلك المخاطر، إنما تقوم حسب ما أعلنه الاحتياطي الفيدرالي أخيرا من أن قراراته سيتم اتخاذها بناء على ما سيستجد من تطورات خلال كل مرحلة.

 

 

نقلا عن الاقتصادية