مخاوف من دخول الصين في ركود اقتصادي .. هل تصمد ؟

30/08/2022 2
د. فهد الحويماني

منذ عدة أعوام والاقتصاد العالمي يعتمد بشكل كبير على صلابة الاقتصاد الصيني وقوة ماكينته الإنتاجية التي أوصلت الناتج المحلي الإجمالي لنحو 18 تريليون دولار، ليكون بذلك ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية. أهمية استمرار نمو الاقتصاد الصيني تنبع من ضخامة احتياجاته من المواد الأساسية والطاقة والخدمات المتعلقة بعمليات التصنيع والإنتاج والنقل والتوزيع وغيرها، لذا تتجه أعين المراقبين نحو الصين لمحاولة قراءة نسب النمو المتوقعة.

الصين التي كان اقتصادها ينمو بشكل مذهل يصل إلى 10 في المائة سنويا أخذ في التراجع النسبي منذ عدة أعوام، وتشير تقديرات الحكومة الصينية إلى أن يكون نمو 2022 في حدود 5 في المائة، وهناك من يعتقد أن النمو لن يتجاوز 4 في المائة.

في هذا التقرير نلقي نظرة على الاقتصاد الصيني وأهميته على المستوى العالمي، وأبرز التحديات، التي تواجهه في الآونة الأخيرة، وعما إذا كان مصير الاقتصاد الصيني سيكون مشابها لما آل إليه الاقتصاد الياباني من ركود وضعف لأكثر من عقدين من الزمن.

الاقتصاد الصيني.. أعلى نمو اقتصادي على مدى نصف قرن

بحسب البنك الدولي لم يتراجع الاقتصاد الصيني منذ 46 عاما، حيث كانت آخر مرة حقق فيها الناتج نموا سنويا سلبيا 1976، هذا على الرغم من حدوث تراجعات ربعية في بعض الأعوام، إلا أن النمو السنوي لم يشهد تراجعات سلبية منذ ذلك الحين، وقد كان النمو السنوي في المتوسط في حدود 9.2 في المائة. ومقارنة، فالولايات المتحدة سجلت متوسط معدل نمو سنوي 2.7 في المائة خلال الفترة نفسها، وبواقع ثمانية تراجعات خلال ستة عقود، بينما الاقتصاد الياباني سجل العدد نفسه من الانتكاسات ونما بمتوسط 1.9 في المائة سنويا. ما أسباب تفوق الاقتصاد الصيني؟

الناتج المحلي الصيني كان واحدا من أدنى 5 نواتج عالمية

النمو الكبير في الاقتصاد الصيني يعود لكونه انطلق من حالة اقتصادية غير طبيعية قبل عدة عقود، حيث كان ناتج الفرد الصيني في 1960 فقط 90 دولارا، مقارنة بنحو ثلاثة آلاف دولار في الولايات المتحدة في ذاك الوقت. وعندما بدأ ينهض الاقتصاد فيما بعد كانت مراحل النمو بالضرورة كبيرة كونها جاءت لتعوض الضعف والتراخي الاقتصادي، الذي امتد لأعوام طويلة، مستغلة في سبيل ذلك الطاقة الكامنة المهولة من عمالة رخيصة بأعداد مهولة، إضافة إلى التغيرات الهيكلية والتشريعية والإصلاحات الاقتصادية التي أحدثت نقلات كبيرة في الأعمال التجارية والصناعة والاستثمار.

الصين تمكنت من تغيير وضعها الاقتصادي بالعمل على تنمية مكونات الناتج المحلي الإجمالي الأربعة، وهي الإنفاق الحكومي والاستثمار والميزان التجاري والاستهلاك.

النمو الهائل في الإنفاق الحكومي يدفع إنتاجية الاقتصاد الصيني لأعلى الحدود

الإنفاق الحكومي يأتي في أشكال عدة، منها المعونات والتسهيلات الداخلية، التي من شأنها أن ترفع من حجم الاستهلاك على مستوى الأسر والقطاع الخاص، وبالتالي ترفع من حجم الإنتاج لتلبية الطلب المتزايد، وترفع من فرص العمل وتخفيف مستويات البطالة. ثم هناك الإنفاق الحكومي على البنية التحتية التي إضافة إلى تأثيرها الإيجابي فيما سبق، فهي كذلك تؤثر إيجابا في تحفيز الاستثمار سواء المحلي أو الأجنبي، وبالتالي تحقيق تنافسية للسلع والخدمات المحلية، ما يؤدي إلى زيادة الصادرات والحصول على النقد الأجنبي.

عززت الصين بشكل ملحوظ من الإنفاق الحكومي خلال فترات النمو غير الطبيعية، حيث بدأ الإنفاق الحكومي الصيني منذ 1960 في التراجع، ولم يعد إلى مستوياته السابقة إلا بحلول 1970. وبنهاية العقد كان الإنفاق الحكومي قد نما بنحو 97 في المائة، في حين أنه نما خلال عقد الثمانينيات 130 في المائة، ومن حينها استمرت معدلات النمو في الارتفاع بشكل ملحوظ في كل عقد بما يعادل ثلاثة إلى خمسة أضعاف العقد الذي قبله.

بمقارنة الإنفاق الحكومي الصيني في الدول الكبرى، لم يشهد أي من الاقتصاد الأمريكي أو الياباني هذه السرعة في معدلات ارتفاع الإنفاق الحكومي، والتي لم تتجاوز في أي عقد لأي منهما الـ 40 في المائة. الإنفاق الحكومي الصيني الكبير أدى بلا شك إلى زيادة الإنتاجية بمعدل 3.9 في المائة خلال 15 عاما بداية من 1979 وهو أعلى بثلاثة أضعاف ما كان عليه خلال الـ 25 عاما السابقة. قارن ذلك النمو بمتوسط المعدل الأمريكي بواقع 0.4 في المائة خلال ثلاثة عقود بداية من الستينيات.

متوسط دخل الفرد الصيني يتخطى مثيله العالمي في 2021 لأول مرة في التاريخ

يقاس حجم الاقتصاد بما يعرف بالناتج المحلي الإجمالي، الذي هو عبارة عن القيمة السوقية لجميع السلع والخدمات، التي تم إنتاجها خلال فترة زمنية معينة في البلاد، ودخل الفرد عبارة عن قسمة الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد على عدد السكان، وبسبب عدد سكان الصين المهول، فإن متوسط دخل الفرد في الصين يعد متدنيا إلى حد كبير، انظر الجدول المرفق. وعلى الرغم من ذلك، وصل متوسط دخل الفرد في 2021 في الصين إلى 12,500 دولار، وذلك أعلى بقليل من المتوسط العالمي، وقد كان متوسط ناتج الفرد الصيني أقل من المتوسط العالمي منذ ستينيات القرن الماضي إلى 2021.

الإصلاحات الاقتصادية ترفع الاستثمار الأجنبي في الصين

لم يكن الإنفاق الحكومي وحده المسؤول عن النمو الهائل في الإنتاجية، بل تلاحم هذا الإنفاق مع عدد من الإصلاحات الاقتصادية الصينية، التي من بينها استقلالية مديري الشركات على المستوى المحلي، الذي أدى بدوره إلى التنافسية من خلال حرية وضع الخطط الأنسب للأسواق، والقدرة على فلترة العامل الجيد من السيئ، مع القدرة على استغلال جزء من الأرباح في الاستثمار التوسعي للشركة.

جميع هذه العوامل أدت إلى تطور المنتجات الاستهلاكية، التي أدت بدورها لدفع حركة التجارة الخارجية، وإلى جذب مزيد من الصينيين إلى الصناعة. فوفقا لصندوق النقد الدولي تحول العمال من قطاع الزراعة الذي كان يعمل فيه نحو 80 في المائة من الصينيين قبل 1978 إلى قطاع الصناعة، وانخفضت نسبة المزارعين بحلول 1994 إلى نحو 50 في المائة، ثم إلى 27 في المائة في 2018، ما أدى في نهاية المطاف إلى زيادة حجم الاستثمار الأجنبي الذي شهد طفرة استثنائية خلال الفترة من 1986 إلى 2007.

الصادرات الصينية تضاعفت 521 مرة خلال 4 عقود

تكتمل السلسلة الاقتصادية بالخروج من السوق المحلية إلى السوق العالمية، حيث أدت هذه الإصلاحات والاستثمارات إلى وجود قدرة تنافسية استطاعت من خلالها الصين الاستحواذ على مكانة رائدة في الصادرات، التي نمت من 1978 إلى 2021 بنحو 521 مرة، في حين نمت الصادرات الأمريكية 11 مرة واليابانية سبعة أضعاف والألمانية 15 ضعفا خلال ذات الفترة. ولا شك أن سياسة الحكومة الصينية في إدارة سعر صرف اليوان من خلال الاستثمار في السندات الأمريكية أدت إلى رفع تنافسية المنتجات الصينية في الأسواق الخارجية.

هل يستمر الاقتصاد الصيني في النمو الكبير؟

تشير التوقعات إلى أن نمو الناتج في 2022 سيكون بين 4 إلى 5 في المائة، ولكن عطفا على حالات سابقة رأينا كيف يستعيد الاقتصاد الصيني قوته بسرعة مذهلة. ففي 2020 تراجع الناتج في الربع الأول بنحو 10.5 في المائة، إلا أنه سرعان ما ارتفع 11.6 في المائة خلال الربع الذي تلاه، فهل يتكرر هذا السيناريو مع الربع الثالث والرابع من العام الجاري؟ ربما يتكرر إلا أن هناك تحديات وتغيرات كبيرة قد تؤثر في الحركة الاقتصادية الصينية.

تأثير انخفاض عدد القوى العاملة

على الرغم من النمو السريع، الذي حققته الصين في الإنتاجية على مدار العقود السابقة، الذي أسهم بدوره في التوسع الاقتصادي، إلا أنه منذ 2009- وفقا للبنك الدولي- دخلت الصين في تباطؤ ملحوظ لنمو الإنتاجية، فمن معدلات نمو 2.8 في المائة خلال الأعوام العشرة ما قبل الأزمة المالية العالمية أصبح نمو الإنتاجية 0.7 في المائة فقط فيما بعد ذلك، وحتى مع تحسن الأوضاع في 2017 لم تعد الصين إلى مستويات الإنتاجية السابقة. السبب الرئيس لذلك يعود لما أسمته "هارفارد بيزنس ريفيو" بالكارثة الديموغرافية بسبب انكماش عدد السكان في سن العمل في الصين، وهذا يؤثر بدوره ليس فقط في الإنتاجية، بل كذلك في مستويات الاستهلاك المحلي.

مساندة الشركات الحكومية يبطئ الإنتاجية ويستنزف الإنفاق الحكومي

من الأسباب التي يشار إليها في تدني الإنتاجية هناك مسألة دعم الشركات المملوكة للدولة لكونها تلعب دورا حيويا في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي من خلال الحوافز الاقتصادية، التي وفرتها بعد الأزمة المالية من إعانات وقروض ميسرة وإعفاءات ضريبية، وكذلك إعطاء هذه الشركات أولوية الحصول على الحوافز، مقارنة بشركات القطاع الخاص صاحبة الإنتاجية الأعلى والكفاءة الأفضل في توظيف رأس المال. يؤكد هذا الاستنتاج تقرير "فورتشن جلوبال" لأفضل 500 شركة عالمية خلال 2021، فرغم هيمنة الصين على قائمة الشركات الأعلى إيرادات، مقارنة بالولايات المتحدة إلا أنها كانت الأقل ربحية والأقل إنتاجية منها، حيث لدى الصين 145 شركة في قائمة 500 شركة عالمية ولدى الولايات المتحدة الأمريكية 124 شركة. أما من حيث ربحية الشركات الصينية فهي 600 مليار دولار مقابل 1.2 تريليون دولار للشركات الأمريكية، وهي الفجوة الأوسع منذ 1999.

الركود الصيني والسيناريو الياباني .. فقدان القوى العاملة وضعف الإنتاجية وفقاعة العقارات

هناك من يعتقد بأن الصين تمر إلى حد كبير بالسيناريو الياباني، وذلك لعدة أسباب من بينها عدد السكان، فوفقا لبيانات البنك الدولي من المحتمل أن تتراجع القوة العاملة في الصين بمعدل 9 في المائة خلال الـ 14 عاما المقبلة، وإلى 20 في المائة خلال الـ 15 عاما التي تلي ذلك، وذلك شبيه بما حدث في اليابان بعد منتصف التسعينيات حين تجاوز التراجع في عدد القوى العاملة 13.4 في المائة، حينها تراجعت الإنتاجية من 13 في المائة إلى 1 في المائة خلال الـ20 عاما التالية، وبعدها بدأت الشركات اليابانية في التدرج خروجا من قائمة فورتشن جلوبال 500. كذلك في التسعينيات دخلت اليابان في فقاعة اقتصادية بسبب ارتفاع الأصول غير الطبيعي التي كان من بينها العقارات، التي أدت في نهاية المطاف إلى انهيار في الأسعار.

تعيش الصين أزمة عقارية مشابهة، مع تخلف عديد من المشترين عن دفع أقساط وحداتهم إلا بعد إتمام البناء، وبالتالي تخلف المستثمرين عن سداد أقساط القروض للبنوك، في حين أن على أرض الواقع- وفقا لـ"بلومبيرج"– تشكل الوحدات العقارية غير المكتملة مساحة 225 مليون متر مربع لـ 300 مشروع في 50 مدينة، في حين أن قروض هذه الوحدات تبلغ 20 في المائة من محفظة القروض المصرفية الصينية وهو ما يعادل مئات المليارات. هذا يعني أن القروض العقارية قد تتسبب في أمرين أحدهما احتمالية حدوث أزمة مالية شبيهة بأزمة 2008 عبر عدة أحداث بدايتها بدأت بالفعل، وهي التخلف عن السداد ومن ثم انهيار الشركات العقارية، وما يتبع ذلك من أسهم وصناديق استثمارية وبنوك ومصارف، وسلسلة هبوط حادة في أسعار المنازل.

أسعار الطاقة .. ارتفاع التضخم هو الأعلى منذ عامين

ارتفاع أسعار الطاقة أيضا يمثل إحدى العقبات، التي واجهت الاقتصاد الصيني، وهو اقتصاد قائم على الصناعة وإحدى مدخلاته الأساسية هي الطاقة، ولا سيما بعد تركيز الحكومة على تقليل الانبعاثات الكربونية، ما يعني عدم اعتمادها على الفحم، الذي كان أحد الأعمدة الداعمة لاقتصادها على مدار العقود الماضية، خاصة أن فاتورة استيراد النفط في 2021 تخطت 257 مليار دولار. المزيد من الارتفاع في أسعار الطاقة يعني مزيدا من الارتفاع في تكلفة السلع، وبالتالي عدم تحقيق التنافسية المطلوبة في الأسواق العالمية.

الصين تعزز اقتصادها بخفض الفائدة وبيع السندات الأمريكية

أول خطوات العلاج التي اتجهت الصين إليها بعد بيانات الركود الأخيرة، هي خفض معدلات الفائدة لدعم الاقتصاد بمزيد من الإنفاق والتشجيع على الاستهلاك، إلا أن خفض الفائدة، والذي من المتوقع استمراره خلال الفترة المقبلة، سيؤدي بالعملة الصينية إلى مزيد من الانخفاض بعد سلسلة من التراجع المستمر لسعر الصرف منذ منتصف 2020 إلى أبريل الماضي، وانخفاضه 0.64 في المائة مقابل الدولار في يوليو الماضي فقط. فعلى الرغم من أن انخفاض سعر صرف اليوان يفيد في الحصول على قدرة تنافسية للصادرات الصينية، إلا أنه في ذات الوقت مع انخفاضه عن الحدود المعقولة سيشكل عبئا على أسعار الواردات على المستوى المحلي، وبالتالي معدلات التضخم وارتفاع الديون الخارجية.

قبل أزمة الركود الأخيرة اتجهت الصين إلى خفض الحيازات الصينية من السندات الأمريكية في انخفاض تدريجي منذ 2014 حين بلغت ذروتها بنحو 1.3 تريليون دولار، لتصبح الآن 981 مليار دولار، ما يعني تراجعا بأكثر من 21 في المائة خلال ثمانية أعوام. كما أن ذلك تزامن مع تراجع الاحتياطيات النقدية الصينية من أعلى نقطة لها في منتصف 2014، التي لامست حينها أربعة تريليونات دولار، ثم وصلت إلى ثلاثة تريليونات دولار في يناير 2017، ما يعني انخفاضا بنسبة 25 في المائة خلال ثلاثة أعوام فقط.

الخاتمة

يتكالب عديد من التحديات على الاقتصاد الصيني من ركود عالمي وضعف إنتاجية وفقاعة عقارات توشك أن تخلف أزمة مالية، ولكن على الرغم من ذلك لا تزال الفرصة كبيرة أمام الاقتصاد الصيني، لأن يستمر في النمو المتوسط لأعوام طويلة، حيث إنه لم يصل بعد إلى حد الإشباع واستغلال طاقاته القصوى، ولا يزال مستوى ناتج الفرد نحو خمس مثيله في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

 

نقلا عن الاقتصادية