تصحيح أسعار العقار السكني .. عالميا ومحليا

29/08/2022 0
عبد الحميد العمري

أظهر أحدث بيانات بنك التسويات الدولية BIS في نهاية الأسبوع الماضي، زيادة أعداد الأسواق العقارية حول العالم "58 سوقا عقارية"، التي بدأت تسجل انخفاضات سنوية في أسعار المساكن في نهاية الربع الأول من العام الجاري، ووصولها إلى 17 سوقا عقارية، أي ما نسبته 29.3 في المائة من الإجمالي، وهما العدد والنسبة الأعلى منذ نهاية 2020 "عدد الأسواق المنخفضة خمس أسواق فقط، بنسبة 8.6 في المائة من الإجمالي"، كما جاءت هذه المستجدات اللافتة بعد موجة ارتفاع كبيرة سجلتها أسعار المساكن حول العالم خلال 2020 ـ 2021، كانت الأعلى منذ الأزمة المالية العالمية 2008.

وكما هو معلوم أن من أهم العوامل التي وقفت وراء تلك الارتفاعات القياسية في أسعار المساكن عالميا ومحليا على حد سواء، وقف خلفه كأهم العوامل، الانخفاض الكبير في معدلات الفائدة، والارتفاع القياسي في مستويات الائتمان العقاري التي صاحبت تلك المستويات المتدنية لمعدل الفائدة، إضافة إلى التيسير الكمي غير المسبوق الذي قدمته البنوك المركزية حول العالم أثناء التصدي لتداعيات الجائحة العالمية لكوفيد - 19، واستمرت تلك الأوضاع حتى منتصف الربع الأول من العام الجاري، سرعان ما بدأت البنوك المركزية في عكس سياساتها النقدية التيسيرية، والاتجاه بها نحو مزيد من التشديد بعد اصطدام الاقتصادات والأسواق بأعلى معدلات للتضخم خلال أكثر من 40 عاما مضى، وزاد من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية حول العالم الآثار التي ترتبت على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والعقوبات الغربية على الاتحاد الروسي، انعكست في مجملها طوال الأشهر الماضية بمزيد من توقف سلاسل التوريد، ونشوء عديد من الأزمات التنموية والاقتصادية في الدول منخفضة الدخل، وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء عالميا، وتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في أغلب دول العالم، ولا تزال المواجهة بين البنوك المركزية والتضخم قائمة حتى تاريخه، ويتوقع أن تمتد إلى مطلع 2024، وأن يرافقها كثير من الآلام الاقتصادية طوال تلك الرحلة الكأداء، حسبما صرح به أكثر من رئيس بنك مركزي حول العالم، كان آخره ما صرح به رئيس الاحتياطي الفيدرالي، الجمعة الماضي، وتسبب في شطب الأسواق الأمريكية مكاسب شهر كامل خلال آخر جلسة أسبوعية.

وبالنظر إلى النتائج المهمة لبيانات بنك التسويات الدولية BIS حول بداية انخفاض أسعار العقارات السكنية في 17 سوقا عقارية حول العالم، لا بد من الانتباه إلى أنها التطورات التي تمت خلال الربع الأول من العام الجاري، وهي الفترة الزمنية التي لم تلمس كثيرا من الإجراءات والقرارات التي اتخذتها أغلب البنوك المركزية حول العالم، حيث جاء أغلبها خلال الربعين الثاني والثالث من العام الجاري، وبناء عليه يتوقع أن ترتفع أعداد الأسواق العقارية التي ستسجل انخفاضات سنوية في أسعار المساكن لديها، وهو الأمر الذي بدأت مؤشراته في الصدور لدى الدول المدرجة في بيانات بنك التسويات الدولية خلال الأشهر القليلة الماضية، وأن يستمر الصعود في أعداد تلك الأسواق حتى نهاية العام الجاري، وبالتأكيد ستكون أوضاع الأسواق العقارية عالميا تحت وطأة أكبر من الضغوط خلال العام المقبل، إذا ما استمرت البنوك المركزية في مواجهتها الشديدة ضد التضخم، خاصة مع الإصرار العالمي على إعادته إلى 2.0 في المائة فما دون، وهو المعدل البعيد جدا عن معدلات التضخم الراهنة في أغلب الدول، الذي ما زال أعلى من 8.0 في المائة.

محليا، تمكنت الأسعار المرتفعة لمختلف الأصول السكنية في السوق العقارية، من مقاومة حالة الركود الذي سيطر عليها منذ مطلع الربع الثاني، وتصاعد بوتيرة أكبر خلال فترة الصيف، وظلت محافظة على مستوياتها طوال تلك الفترة، على الرغم من تراجع النشاط العقاري السكني 22.8 في المائة، وتراجع القروض العقارية السكنية 18.0 في المائة خلال النصف الأول من العام الجاري. إلا أن الأسعار الحقيقية للأصول العقارية السكنية "الفلل، الشقق" بدأت تسجل انخفاضا ربعيا عن الربع الثالث الجاري مقارنة بـالربع الثاني الماضي، وهو التراجع الربعي الأول من نوعه منذ الربع الثالث في 2020، وهو الربع الذي شهد تطبيق الزيادة في ضريبة القيمة المضافة، وقبل استثناء السوق العقارية بضريبة التصرفات العقارية، التي بدأ العمل بها مع مطلع الربع الرابع من 2020.

وعلى أن التراجع الربعي المسجل هنا وفقا لأحدث بيانات وزارة العدل بنهاية الأسبوع الماضي، حدث لكل من الفلل والشقق السكنية، بانخفاض ربعي للفلل السكنية يبلغ 1.3 في المائة، وبنسبة انخفاض ربعي للشقق السكنية بلغت 1.8 في المائة، بينما لا تزال تحتفظ بمعدلات نمو سنوية بلغت 2.2 في المائة، ونحو 2.1 في المائة على التوالي، وهي معدلات النمو السنوي الأقل من المعدلات المسجلة خلال الربع الثاني. إلا أن المتوسط السعري المماثل للأراضي السكنية جاء مستقرا عند مستوياته المسجلة نفسها خلال الربع الثاني من العام الجاري، وهو الأمر المفهوم أسبابه لاختلاف نوعية المشترين بالنسبة إلى هذا الأصل السكني، بزيادة شريحتهم التي تضم المستهلكين والمطورين والمستثمرين والمضاربين، على عكس شريحة المستهلكين التي تستهدف الفلل والشقق السكنية، التي تتأثر بدرجة أكبر بالقدرتين الشرائية والائتمانية لديهم، ولهذا ظهر مبكرا تأثير ارتفاع الأسعار ومعدل الفائدة في نشاط هذه الشريحة، وهو ما لا ينطبق بالصورة نفسها على شريحة المشترين للأراضي، التي تتسع كما أسلفت ذكره أعلاه لفئات أوسع وأكبر تتجاوز شريحة المستهلكين، ولهذا من الطبيعي أن يتأخر تأثير تلك المتغيرات أو العوامل المستجدة في السوق العقارية.

ختاما، يبدو أن تصحيح الأسعار في أسواق العقار ظاهرة عامة، وليست فقط محلية، وفي طريق متسع من شمولها لأسواق عقارية أوسع خلال الفترة الراهنة ومستقبلا، ويعد أمرا صحيا ومفيدا للاقتصادات والأسواق على حد سواء، خاصة بعد موجة ارتفاعها القياسي خلال الفترة 2020 ـ 2022، وجاءت آثارها عكسية في أغلبية المستهلكين في تلك الدول، وهذا من ضمن مستهدفات البنوك المركزية حول العالم، أن تعمل على استقرار أسواقها المحلية، والمحافظة على استقرار الأسعار، ومكافحة معدلات التضخم المرتفعة، ويعد تضخم أسعار المساكن أحد أكبر مغذياتها، وينتظر - بمشيئة الله تعالى - أن تشهد تلك الأسواق تحسنا يخدم احتياجات المستهلكين، وأن يكون في أعلى مستوياته محليا.

 

 

نقلا عن الاقتصادية