صدر قبل أيام قليلة عن صندوق النقد الدولي تقرير، بعنوان «مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي». وآفاق الاقتصاد العالمي World Economic Outlook، واختصارا WEO، وهو يصدر مرتين سنويا في فصلي الربيع والخريف ويعد خلاصة تحليلات الصندوق حول أحدث التطورات الاقتصادية في العالم.
يتوقع الصندوق أن ينخفض نمو الاقتصاد العالمي من نحو 6 إلى 3 في المائة. ويبدو أن الانخفاض سيكون أسوأ، مع تداعيات حرب أوكرانيا وتشديد كبرى الدول سياساتها النقدية، مقرونة بانخفاض ملموس في القوة الشرائية للناس، مع اختلالات العرض والطلب.
لجأت أمريكا ودول كثيرة إلى رفع معدلات الفائدة، وبصفة أعم، تشديد السياسات النقدية بهدف خفض معدلات التضخم الذي يعانيه البشر. لكن التشديد، من الجانب الآخر، يؤثر سلبا في النمو الاقتصادي. وللعلم، لكل سياسة آثار حسنة وآثار سيئة. والمطلوب الموازنة بينهما بعلم وموضوعية.
هل تنجح جهود خفض التضخم؟ عالميا، لكل جهة معتبرة ومسؤولة توقعاتها. لكن من المحتمل جدا أن يكون تحقق الخفض أقل وأصعب مما كان متوقعا. لماذا؟ يفسر تقرير المستجدات احتمال حصول ضعف في عوامل مساعدة على خفض التضخم بصورة أكبر مما كان متوقعا. ومن المحتمل حصول مزيد من الضيق في أسواق العمل، وفي مشكلة مديونيات دول كثيرة، وفي مشكلات القطاع العقاري في الصين، وفي الخلافات والنزاعات بين الدول.
رغم ما سبق فترويض التضخم مطلب مهم لمعيشة الناس. هذا الترويض مكلف. لكن عدمه أشد تكلفة. من تكاليف الترويض التشديد في سياسات الإنفاق الحكومي، بل ربما خفضه، بعد أن أضرت جائحة كورونا بميزانيات الدول، خاصة أنها زادت من عجز الميزانيات والدين العام للدول. وجاءت حرب أوكرانيا لتزيد من الطين بلة. والكلام على غالب الدول وليس على كل دولة في العالم. مثلا، بلادنا - بحمد الله - لا ينطبق عليها.
خفض الإنفاق الحكومي يستهدف خفض العجز في الميزانيات. لكن الناس لا تحب خفض الإنفاق. ماذا في حال عدم خفض الإنفاق؟ بالنظر إلى ضخامة المديونيات العامة، فإن الحل الأنسب يتركز في زيادة الإيرادات العامة. لكن الضرائب هي المصدر الأكبر للإيرادات. وتبعا فزيادة الإيرادات العامة في الوقت الحاضر والمستقبل القريب تتطلب زيادة الضرائب. لكن كيف؟ ينصح الصندوق بتوخي أعلى حكمة ممكنة في التطبيق.
خلاف ما سبق، ما أهم العوامل التي تشكل آفاق المستقبل؟
تباطؤ النشاط الاقتصادي العالمي، بعد التعافي الأولي في العام الماضي. تشير تقديرات الصندوق إلى تقلص في الناتج المحلي العالمي بالأسعار الحقيقية في الربع الثاني من هذا العام. بعد أن شهدنا العكس في العام الماضي والربع الأول من هذا العام.
من العوامل المؤثرة تباطؤ النشاط الاقتصادي في الصين. وأهم سبب وراء هذا التباطؤ تفشي جائحة كورونا في الصين بقوة. وحيث لجأت السلطات إلى وضع قيود شديدة لمحاربة كورونا، فقد كان لذلك ثمن، ومن الثمن تضرر النشاط الاقتصادي بقوة. ومن نتائج هذا التضرر صعوبة سداد كثيرين مديونياتهم، خاصة العقارية.
من العوامل المؤثرة استمرار الحرب في أوكرانيا، وتبعات ذلك على الاقتصاد الأوكراني وغير الأوكراني. وهذه قضية أوسعت بحثا ونقاشا، لذا سأكتفي بذكر نقاط، نظرا إلى ضيق الحيز المتاح.
تضرر الاقتصاد الأوروبي من الحرب كان أقوى مما كان متوقعا من قبل. ارتفعت أسعار الطاقة، وضعفت ثقة المستهلكين، وتباطأ نشاط الصناعة التحويلية وارتفعت أسعارها بسبب ضعف أو انقطاع الإمدادات والمدخلات التي تحتاج إليها تلك الصناعة.
خلاف ما سبق يشهد العالم أزمة طعام. رغم استقرار أسعار الأطعمة بصفة عامة في هذا الصيف، لكنها ما زالت أعلى وبوضوح من الأسعار في العام الماضي.
محصلة ما سبق هبوط النشاط الاقتصادي العالمي، ومتوقع استمرار ذلك في المستقبل القريب، ويتوقع أن نشهد مزيدا من هيمنة مخاطر التطورات السلبية، ومن أمثلة هذه التطورات السلبية انخفاض تدفقات الغاز الطبيعي من روسيا إلى بقية أوروبا.
يرجح تباطؤ نمو التجارة الدولية هذا العام والعام المقبل. وهو تباطؤ يعكس الحالة الاقتصادية عامة. وزاد من قوة التوقعات ارتفاع سعر الدولار، نظرا إلى دوره الرئيس في التعاملات وإصدار الفواتير الدولية. أي أن المستورد أو المشتري يواجه ارتفاع سعر ما يقلل من قوة الطلب. وهذه النقطة لا تنطبق - بحمد الله - على بلادنا، بالنظر إلى تثبيت سعر صرف الريال بالدولار عبر عشرات الأعوام. ما سبق يطرح مسألة الأولويات في السياسات.
ينبه الصندوق إلى أهمية كبيرة في جودة السياسات لاستعادة استقرار الأسعار مع حماية الفئات الضعيفة. وهناك حاجة إلى إصلاحات هيكلية لعلها تسهم في خفض التضخم ولو بعد حين. من الإصلاحات تحفيز الدول لمزيد من تبني سياسات تدعم التوسع في العرض والإنتاج. من الإصلاحات تبني سياسات تدفع إلى زيادة عرض اليد العاملة.
من الإصلاحات العمل أكثر وأكثر في معالجة أزمة الطعام والطاقة. ولبلادنا دور في ذلك. فقد اتخذت خطوات تساعد على استقرار الأسواق عالميا. وجوهر مشكلة الطاقة، كما ذكر وزير الخارجية السعودي، في نقص منتجات التكرير، وليس النفط الخام.
تحدث الصندوق عن أهمية إعطاء مزيد من الاهتمام في حماية الفئات الضعيفة، والعدالة الضريبية وتحسين آليات التأمين الاجتماعي وزيادة الاستثمار في الصحة والتعليم ومشاريع البنية التحتية ذات العائد الأعلى. كما تحدث عن الحاجة إلى مزيد من عمل الإصلاحات الهيكلية في المالية العامة. وتختلف الرؤى في كيفية وقدر الإصلاح، وفي مدى جودة التوقعات. وفي هذا ينصح بمزيد تعاون مثمر بين الدول. أهم من كل ما سبق حسن الظن بالله عن يقين وتطبيق عملي، وطلب العون منه. نسأله سبحانه ألا يجعل معيشتنا ضنكا، آمين.
نقلا عن الاقتصادية