تعد ظاهرة التعصب Prejudice من أخطر الظواهر سلبية، ولأنها تشمل القولبة Stereotyping والعنصرية Racism والتمييز Discrimination والمركزية العنصرية Ethnocentrism والمحسوبية Favouritism والعداوة الاجتماعية Social Antagonism، والتعصب بحد ذاته حتمي لأنه جزء من مفهوم التصنيف Categorization الذي يعد جزءا من أدوات التفكير الإنساني، فلا مفر من تصنيف الناس والمجتمعات والوظائف، وأين ولدت وأين درست ومن أين تخرجت، وفي هذا يسعى الجميع باستخدام أدوات التصنيف إلى إعادة ترتيب المجتمع، ترتيب "قد" يتضمن نوعا من العنصرية، وقد تتحول مع الوقت إلى عداوة اجتماعية. لكن كيف يحدث هذا التحول نحو العداوة الاجتماعية؟ وأين تحدث هذه الظواهر؟ بداية، فإن هناك مجالا واسعا في علم الاجتماع لدراسة هذه الظواهر، وهناك نماذج علمية أثبتت جدارتها وقوتها في تفسير هذه الظواهر، فالحديث عن هذه الظاهرة ليس حديث الانطباع بقدر ما هو حديث العلم، فقد درس العالم من شرقه إلى غربه هذه الظواهر وتجلى بوضوح مدى انتشارها وأثرها المقيت في المجتمعات، ولا شك أن انتشار أدوات التواصل الاجتماعي لم يسهم إلا في زيادة انتشار هذه الظواهر، خاصة بين الشباب، بل إنها تعد فرصة سانحة لكسب المؤيدين والمعجبين، ولو أدت إلى تفتت المجتمع. التعصب يعني التفكير السيئ عن الآخرين دون دليل، تفكير يقود إلى سلوك ضد الأشخاص الذين تمت قولبتهم أو تم تمييزهم، والضد هنا قد يصل حتى الضرر المادي، لكن في هذا المقال أحاول استدراج القارئ الكريم نحو قراءة هذه الظاهرة في مقار العمل وأثرها الخطير هناك، فهي ليست مجرد ظاهرة في الشارع، أو أسلوب حياة عند بعض الأفراد أو الأسر، بل تنتقل بهدوء إلى مقار العمل.
التعصب في العمل يشتمل على خصائصه العامة التي ذكرتها أعلاه، مثل القولبة والعنصرية والتمييز والمركزية والعنصرية والمحسوبية، لكن يجب الحذر عند قراءة المقال، فأنا لا أقصد انتقال هذه الظاهرة الاجتماعية السيئة من الشارع إلى مقار العمل، بمعنى لا أقصد التمييز بين القبائل في العمل، أو التمييز بين الأجنبي والسعودي، أو المحسوبية لعائلة معينة على حساب الآخرين، بل أقصد التمييز بناء على نوع العمل نفسه. وفي هذا المقال، أركز على هذه الظاهرة في إطار عمل المراجعة الداخلية وإدارة المخاطر، ويمكن إضافة إدارة الأمن السيبراني، كما يمكنك عزيزي القارئ دراسة هذه الظاهرة في تخصصات أخرى، لأنني أجزم بأنها منتشرة بشكل مقلق، ومهدد. وظاهر التعصب في العمل لا تبدأ بالتصنيف كما هو الحال مع هذه الظاهرة في المجتمع، بل هي تبدأ بالصراع، conflict، ففي تخصصات المراجعة وإدارة المخاطر تم رصد عديد من مظاهر الصراع بين الإدارات التنفيذية وموظفي هذه الإدارات، فقد لوحظت هذه الظاهرة في وقت مبكر من قبل عدة أبحاث ودراسات نشرت في مجلات علمية عالمية، حيث كان المديرون ينظرون إلى المراجعين على أنهم مصدر للنقد السلبي بدلا من النقد البناء أو الدعم، وهناك من يجادل بأن المراجعة الداخلية ينتج عنها علاقة شخصية عدائية مكثفة بين المراجعين والجهة الخاضعة للرقابة، وتصبح الجهة الخاضعة للمراجعة غير متعاونة من خلال عدم تزويد المراجعين بالمعلومات المطلوبة أو عدم وجود الموظفين. من ناحية أخرى، يميل المراجعون إلى استخدام قوة صلاحياتهم ودعمهم من لجان المراجعة المستقلة للتسبب في القلق، وإشاعة الجو من التوتر، وقد يشعر هؤلاء المراجعون بنوع من الرضا لانتشار هذا الشعور السيئ.
وقد وقفت شخصيا على أعمال تصنف بأنها عدائية، من مثل قيام المراجع الداخلي باستخدام آلات التسجيل "مخفية" أثناء العمل، أو النقاش خلال فترة الاستراحة بشكل يشبه التحقيق، أو طلب ملفات أو خطابات سرية بشكل مستفز دون وجود خطة عمل أو إجراءات معتمدة أو سبب وجيه، خاصة عند سماع وجود مثل هذه الخطابات وهو لا يعرف ما هي، ويكون الصراع على أشده بين إدارتي الموارد البشرية والمراجع الداخلي بشأن معلومات عن الوظائف الشاغرة والترقيات، خاصة أن للمراجع الداخلي مصالح واضحة في ذلك. ومن الظواهر العدائية كذلك، رفض الإدارات الأخرى، مثل الموارد البشرية وتقنية المعلومات والإدارات التنفيذية للمشاريع الاستراتيجية والشؤون القانونية، لأعمال المراجعة وزياراتها على أساس فرضية مفادها أن أعمال المراجعة الداخلية محصورة في الأمور المالية والمحاسبة فقط. هذا الصراع يتحول مع الزمن نحو التصنيف، ثم العنصرية، ثم العداوة الاجتماعية، لتصبح مقار العمل حاضنة للتعصب بأشكاله المختلفة، وقد يكون هناك تعصب إضافي داخل العمل ضد التركيبة الاجتماعية أو الشكل أو الأسر، ما يجعل مقار العمل جحيما واحتراقا داخليا لأحد الأطراف. ومع دخول إدارات مثل المخاطر والأمن السيبراني زادت الضغوط بشكل لافت، وأصبحت مقار العمل أكثر عدوانية، كما أن هناك مظاهر جديدة بدأت بالظهور، مثل التعصب بين إدارتي المخاطر والمراجعة الداخلية. لحل هذه الظواهر قبل استفحالها لا بد من أخذ هذه القضايا بجدية وتنفيذ اختبارات اجتماعية في مقار العمل حول مكامن الظاهرة ومعالجتها. وهذه المكامن أربعة، وهي القلق، والتهديد المادي والتهديد الرمزي، والصور الذهنية، وبمجرد اكتشاف المسبب الرئيس يمكن بدء معالجة الظاهرة قبل أن تصل الخلافات للعمل حتى مراحل عدوانية شديدة قد تصل إلى تعطيل الأعمال والانشغال بالدعاوى الكيدية بالفساد.
نقلا عن الاقتصادية