من زاوية القطاعات الاقتصادية، وكما هو معلوم، تلعب الأنظمة واللوائح والسياسات دوراً مهماً في تنظيم القطاعات الإقتصادية المختلفة. بل ويمتد الأمر لتنمية هذه القطاعات واستدامتها. ويتلمس المستثمر محلياً وعالمياً قوة وأهمية التشريعات بشكل متفاوت بين القطاعات بحسب نضج القطاع من جهة، والمشرع لها من جهة أخرى. وفي الأغلب، فإن هذا النضج يُكتسب بالممارسة، محليا وعالمياً، بشكل يراكم الخبرات مما يولد القدرة على التعامل مع النشاط الاقتصادي ومستجداته وأوجه تطويره وتفرعاته المختلفة.
من وجهة نظري، تعتبر تشريعات القطاع المالي في المملكة مثال يحتذى به في مجال التشريعات المرتبطة بهذا المجال. ففي النهاية، فإن البنوك ما هي إلا شركات مساهمة. لكن تعامل البنك المركزي مع هذه الشركات، وأنشطتها، وأداءها الاقتصادي…إلى آلخ، استوقفني للتأمل في مدى العناية التي يوليها البنك المركزي لهذه الشركات. وقد يظهر للمتأمل بأن القطاع تقليدي وناضج عالمياً منذ سنوات طويلة. لكن الحقيقة هي أن التشريعات المحلية نأت، غير ذات مرة، بالقطاع عن أزمات لحقت بذات القطاع عالمياً، وفي الدول التي نحسبها رائدة في هذا المجال.
أما إذا ما نظرنا لجانب التنمية والاستدامة لقطاع البنوك السعودية، فإن تشريعات القطاع، والرقابة عليه، ومتابعته اللحظية، وغيرها من أدوات البنك المركزي، كانت ولا تزال مؤثرة في ضبط اتجاه بوصلة القطاع نحو النمو والازدهار. بحمد الله، ثم بفضل هذه التشريعات، لم يتعرض أي بنك سعودي للخسارة أو التعثر أو الاغلاق. بل على النقيض، تتطور وتزداد أرباح هذه الشركات، وتكبر وتندمج، وتشكل في مجملها قوة وطنية. وعلى النقيض، فقد شاهدنا بنوك أوروبية وأمريكية تتأثر بشدة جراء الأزمات، وبعضها أغلق الأبواب في وجه المودعين وحرمهم من سحب مدخراتهم.
وحتى نوسع قليلاً من محيط الأمثلة على التشريعات الناضجة بشكل ممتاز، فإن قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات، من وجهة نظري، يتمتع بتشريعات ممتازة. يحظى القطاع وشركاته باهتمام وعناية شديدين وهو يحاكي إلى حدٍ ما القطاع المالي. إلا أن تطور قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات سريع جداً، ويتطلب تطوير تشريعات بشكل متسارع تلبية لحاجته. أما إذا ما دمجنا تقنيات من قطاعي المال والاتصالات وتقنية المعلومات، فإننا سنجد مثلاً حلول وتطبيقات التقنية المالية (الفنتك) والعملات الرقمية، والتي تعتبر أحدث أوجه تطورات القطاع المالي وقطاع الإتصالات وتقنية المعلومات معاً.
وإذا ما نظرنا إلى التقنية المالية (الفنتك)، سنجد بأنها الشكل الجديد للحلول المالية المختلفة، إلا أنها ومع حداثتها عالمياً، فقد أولاها البنك المركزي من العناية ما يجعل الشخص العادي يتعامل معها وكأنها كانت موجودة منذ عشرات السنوات. فهذا تطبيق يطرح فرص استثمار عقاري والآخر تجاري والثالث صناعي، إلى تطبيق يدور الأموال بين المشتركين على شكل (جمعية)، ثم يأتي تطبيق آخر ليفتح محافظ نخبة من المتداولين في (تداول) حتى يتعلم منهم من أراد أو يخطو خطاهم في البيع والشراء، وهكذا من الحلول المالية المختلفة والمتطورة والتي تبهر الألباب. وكل هذا يحصل، والتشريع هو نقطة الانطلاق والانضباط.
أما العملات الرقمية (الكريبتو)، فهي السؤال الجديد على مستوى العالم. ولا تزال حركة تشريع هذه العملات محل بحث في أغلب دول العالم. من الدول من تعامل معها على شكل سلع واسقط عليها الضريبة، ومنها من لا يزال يبحث أوجه التعامل معها. وبين هذا التسارع في تطوير الحلول المالية التقليدية، وابتكار حلول مالية جديدة، وظهور (عملات رقمية) وغيرها، يظل التشريع في تطور سريع ومستمر ليواكب الأحداث وتطوراتها.
وفي الخلاصة، فإن الأنظمة واللوائح والسياسات، تلعب دوراً رئيسياً ومهماً جداً في نمو وازدهار القطاعات الاقتصادية المختلفة. والأمثلة تتنوع فيما حولنا سواءً في القطاع المالي، أو الاتصالات وتقنية المعلومات، أو القطاع النفطي وغيرها من القطاعات التي اكتسبت نضجاً وعناية حتى بات الاستثمار فيها محل اطمئنان المستثمر والعميل. وتمضي بلادنا، في ظل رؤية المملكة ٢٠٣٠، نحو تطوير المزيد من تشريعات مختلف القطاعات الاقتصادية، وذلك لدورها الهام في التنمية الوطنية، فإن أصبت فمن الله، وإن اخطأت فمن نفسي.
خاص_الفابيتا