الإضرابات الأوروبية

28/06/2022 1
د. عبدالله الردادي

موجة من الإضرابات تشهدها الدول الأوروبية اليوم، من خطوط الطيران، إلى النقل العام، إلى السكك الحديدية. هذه الإضرابات جاءت في وقت تزدحم فيه أوروبا بالسياح القاصدين إليها من جميع أنحاء العالم، للاستمتاع بصيفها ومزاراتها السياحية. ولكن لا يبدو أن السياح سيجدون أوروبا التي اعتادوا عليها قبل سنوات. فمطاراتها اليوم ملأى بطوابير المسافرين الحانقين من التأخير، والرحلات الملغاة، والحقائب الضائعة. فلماذا وصلت أوروبا إلى هذه الحالة؟ وماذا يحمل المستقبل لها؟

قد يكون مصطلح «التضخم غير المتكافئ» أحد أهم أسباب هذه الإضرابات. ويشير هذا المصطلح إلى زيادة التضخم في الأسعار، والذي لا تصاحبه زيادة مماثلة في الأجور. وعلى الرغم من أن قطاع النقل استبشر خيراً بانتهاء الجائحة، بعد أن عانى كما لم يعانِ من قبل، فإن التضخم هاجم أوروبا بضراوة، مدعوماً بالحرب الروسية الأوكرانية، وزيادة أسعار النفط وغيرها من العوامل. ووجد الموظفون أنفسهم أمام تضخم لم يشهدوه خلال حياتهم المهنية، فآخر تضخم شبيه كان قبل نحو 40 عاماً. وتحججت شركات الطيران والنقل بالآثار السلبية للجائحة، والتي تمكن بعضها بالنجاة منها بأعجوبة، بينما أعلن البعض الآخر إفلاسه خلال الجائحة، وخروجه من السوق.

هذه الإضرابات لن تكون مجرد أخبار عابرة لدى عامة الناس؛ بل سيرونها بأعينهم، وقد تؤثر عليهم بشكل مباشر.

فعلى سبيل المثال، قام الموظفون في كل من طيران بروكسل و«راين إير» بإضراب تسبب في إلغاء نحو 315 رحلة، شمل إسبانيا والبرتغال وبلجيكا، وهو في الطريق لكل من إيطاليا وفرنسا. كان السبب الرئيس لهذا الإضراب هو نقص الرواتب، وسوء حالة العمل الذي تسبب فيه نقص العاملين في هذا القطاع. فبسبب الجائحة، قلصت العديد من شركات الطيران والمطارات موظفيها، وعندما عاد القطاع للعمل لرتمه المعتاد، اضطر الموظفون للعمل برتم أكبر من المعتاد؛ خصوصاً أثناء الصيف حين تزدحم المطارات. ولم تستطع العديد من شركات الطيران والمطارات التوظيف بشكل سريع، بسبب إجراءات الفحص الأمني التي قد تستغرق حتى شهرين. وأدى ذلك إلى استياء عام بين العاملين في هذا القطاع، امتد من الطيارين حتى العاملين في نقل الحقائب، مروراً بموظفي أمن المطارات. والنتيجة لذلك مباشرة وسريعة، وهي مطارات مكتظة بمسافرين ألغيت رحلاتهم، وآخرين في طوابير طويلة في التفاتيش الأمنية، وغيرهم ممن فقدوا حقائبهم بسبب هذه الفوضى.

مثال آخر على ما يحدث في أوروبا، هو إضراب العاملين في السكك الحديدية في بريطانيا، هذا الإضراب هو الأكبر منذ ثلاثين عاماً، وسببه أن العاملين لم يحصلوا على أي علاوة منذ 3 سنوات، وحينما تقرر منحهم هذه العلاوة، جاءت أقل بكثير من التضخم الحالي. فالعلاوة تراوحت بين 2 و3 في المائة، بينما وصل التضخم في بريطانيا هذا الشهر إلى 9.1 في المائة، ويتوقع أن يصل إلى 11 في المائة في الشهور القليلة القادمة. وبقيادة من نقابة السكك الحديدية والنقل البحري والعام، قام نحو 40 ألف موظف بالإضراب عن العمل، فتوقفت القطارات عن العمل لثلاثة أيام، وتسبب ذلك في ازدحام الطرق وتعطل الأعمال. وحتى الآن تبدو هذه المشكلة بلا حل، بعد فشل المفاوضات بين النقابة وشركات السكك الحديدية.

اختيار توقيت هذه الاضطرابات لم يكن عبثاً، فالسياحة أحد أهم الروافد لأوروبا وبريطانيا، وعند تعطل المطارات ووسائل النقل فسوف يلغي العديد من السياح رحلاتهم للابتعاد عن هذه الاضطرابات، والبحث عن بلدان أكثر استقراراً وأقل مشكلات. وبينما كان العاملون في قطاع السياحة يأملون أن يعوّض هذا الصيف سنوات الجائحة التي انعدمت فيها السياحة تماماً، لا يبدو أن هذا الصيف سيكون مثالياً لهم في هذه الظروف، وتحت الضغوطات الاقتصادية التي يعاني منها العالم بأسره.

وما يزيد الطين بلة، أن هذه الإضرابات قد تكون مجرد بداية لسلسلة من الإضرابات التي قد تشهدها دول أوروبا في قطاعات أخرى، فالجميع يعاني من التضخم، والنقابات الأخرى بدأت في التصريح بأنها أحق بزيادة الرواتب، لكونها ساهمت بفعالية خلال الجائحة، ولم تجد التقدير الكافي بعدها، ومنها نقابات المعلمين والقطاعات الصحية. وفي حال لم تتمكن الحكومات الأوروبية من احتواء هذه الأزمة، فقد تتعرض لما تعرضت له في السبعينات الميلادية من تعطيل كامل للمنشآت والخدمات، وهي بكل تأكيد لن تستطيع تحمل ذلك؛ لا سيما في هذا التوقيت.

 

نقلا عن الشرق الاوسط