يشهد العالم الثورة الصناعية الرابعة، ثورة تقنية حققت والثورات السابقة إنجازات هائلة، لا تخفى على الإخوة القراء. لكنها زادت القناعة بغرور البشرية بما حققته من تطور مادي. غرور يزيد جلب المشكلات والأزمات الاقتصادية.
فتحت الثورة الرابعة الباب لاختراقات ومشكلات بها نوع اختلاف عما مر بالبشر في المنجزات الصناعية السابقة. وكتب عن هذا كثيرون. ومنه ما نشرته جريدة "الاقتصادية" في عدد الجمعة الماضي للكاتب الاقتصادي مارتن وولف. أشار في مقاله بعنوان: "12 مسألة عن حالة العالم اليوم .. وغدا" إلى مشكلات كبيرة يمر بها العالم. العالم مهدد بالسيف والمجاعة، وتقود العالم سياسات حمقاء. وجلبت كارثة كورونا نقاط ضعف كبيرة في البشر ومخترعاتهم.
في القرآن الكريم إشارات كثيرة إلى غرور بشري يعقب ما ينعم الله على البشر من نعم وتطور. إشارات تساعد على فهمنا للأزمات الاقتصادية، من ذلك قوله سبحانه: "فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون" (الزمر: 49).
قال المفسر الإمام ابن كثير: "يقول تعالى مخبرا عن الإنسان إنه في حال الضراء يضرع إلى الله - عز وجل - وينيب إليه ويدعوه، وإذا خوله منه نعمة بغى وطغى، وقال: "إنما أوتيته على علم"، أي: لما يعلم الله من استحقاقي له ولولا أني عند الله تعالى خصيص لما خولني هذا".
طبعا الأزمات الاقتصادية ليست أمرا جديدا، فالعالم مر ويمر بها بين وقت وآخر بصور متعددة. وسرعان ما يتكلم متكلمون مركزون في رمي العيب بالنظام السائد. والأغلب رميه بما اعتيد على تسميته الرأسمالية. بمعنى أنهم يرون أنه لولا الرأسمالية لما تطورت وظهرت تلك الأزمات. هذا تبسيط مخل للمشكلة. تجاهل عمدا أو جهلا طبيعة وغرور السلوك البشري الاقتصادي.
هيمنة الأفراد والقطاع الخاص على ملكية وسائل أو عناصر الإنتاج كرأس المال والعمل والأرض، بغرض الربح، تسمى اقتصاد السوق. وهو جوهر ما يسمى بالرأسمالية. وليس شرطا أن تعمل السوق بحرية مطلقة. بل هذا خلاف ما نرى واقعا. نرى اقتصادا مختلطا mixed economy بين الحرية وتدخل الحكومات، حيث توجد قوانين تحد كثيرا حرية السوق وتصرف المنشآت، وتعطي اهتماما بحماية مصالح المستهلكين وتضع قيودا على الملكية وطرق جمع المال. لكن كل هذا لا يلغي وجود التلاعب والأنانية والغرور البشري، الذي يبقى وقد يزيد مع المنع أو التضييق الشديد لاقتصاد السوق، كما حصل في الاتحاد السوفياتي من قبل.
إن النظام الاقتصادي السائد في المجتمعات الإسلامية عبر القرون قائم من حيث الأصل على اقتصاد السوق وسيادة الملكية الخاصة. هذا ما يفتي به الفقهاء من حيث المبدأ والأصل. ولهذا يرى كثير من المؤرخين الاقتصاديين الغربيين أن احتكاك الغرب بالمسلمين في قرون مضت كان له أثر كبير في تعريف الغرب بمبادئ وميزات اقتصاد السوق والملكية الفردية. ومن ثم فإن مبادئ الرأسمالية ممثلة في اقتصاد السوق ليست فكرة غربية حديثة، لكن الثورة الصناعية في الغرب أشاعت ذلك.
السؤال التالي: علام "في التفسير الاقتصادي المختصر" ما نراه من أزمات اقتصادية عالمية بين وقت وآخر؟.
هناك طبائع اقتصادية موجودة في البشر قديما وحديثا. من الطبائع حب المال والأنانية المفرطة. والكلام على أغلب البشر، وفي الوقت نفسه، هناك معايير أو مبادئ تحكم الاقتصاد، وربما كان أهمها أن للموارد حدا، بينما الرغبات غير محدودة، ولذلك لا يمكن الحصول على كل ما تشتهيه النفوس. ومن المعايير الاختيار، حيث يمكن استعمال الموارد نفسها للحصول على عدة بدائل من السلع والخدمات، كما يمكن توزيعها على أكثر من فترة زمنية، ولذا لا بد من الاختيار، ولكل اختيار محاسن وعيوب. ومن المعايير حب الاستزادة من متع الدنيا، ومن المعايير، أن لكل شيء ثمنا "تقريبا" وليس هناك "تقريبا" شيء مجاني.
التعارض بين سلوكيات البشر ومعايير الاقتصاد ينشأ كثيرا، فمثلا يزيد طلب الناس في مختلف الدول على السلع المستوردة طالما كانت أرخص نسبيا، وسبب رخص أكثرها غالبا أنها أتت من دول تكلفة الإنتاج و/أو البيع فيها متدنية نسبيا، لأسباب عديدة يطول شرحها. لكنهم في الوقت نفسه يريدون من المصانع والمنشآت في دولهم وبلدانهم توفير وظائف للجميع. مثال آخر. يبحثون عن وسائل إذا كانت لمصلحتهم، لكنهم في الوقت نفسه ينقمون من وجودها إذا كانت عليهم، وهكذا. مثال آخر هدر الطعام وتبعاته.
في إطار سلوكيات البشر ومعايير الاقتصاد، جاءت الشرائع السماوية لتهذيب السلوك، كما حاول الإنسان أن يضع قوانين للغرض نفسه. روى البخاري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، ومن أخذه من غير حقه، فهو كالذي يأكل ولا يشبع".
باختصار الأزمات الاقتصادية تعكس أولا سلوكيات بشرية. وعلى رأس هذه السلوكيات ما أشار إليه القرآن الكريم في الآية السابق ذكرها. وثانيا تعكس تمددا وعولمة في النظام المالي ساعدت التقنية الحديثة على ظهوره، في عالم يسوده حب المال. والناس أنانيون محبون للمال خلقة وليس طبعا. وهذا يعني ويتطلب ضمن ما يتطلب فهم الأوضاع جيدا، وشكر النعم قولا وسلوكا، وليس قولا فقط. جعلنا الله ممن يشكرون نعمه بالقول والفعل.
نقلا عن الاقتصادية