لم يكن مفاجئاً ارتفاع أسعار السلع عالمياً, فقد توقعتها الكثير من التقارير والدراسات الصادرة من مؤسسات مالية دولية, كإحدى تداعيات أزمة جائحة كورونا التي تسببت بالإقفال الكبير والتراجع الحاد بإنتاج السلع الغذائية وغيرها, مما قلل المعروض بعد العودة السريعة والكبيرة للطلب مع اتخاذ إجراءات تحفيزية من أغلب دول العالم لاستعادة النمو الاقتصادي, لكن لم يصاحب هذا النمو الهائل بالمعروض النقدي وكذلك الطلب الكلي زيادة بالإنتاج ترفع المعروض لمستوى يمنع حدوث ارتفاع حاد بالأسعار, لكن الأزمة الأخيرة لجائحة كورونا ليست هي بداية التضخم بل إن الأزمة المالية العالمية عام 2008 هي التي أشعلت موجات التضخم وماتبعها من معالجات رفعت من معدلات عرض النقود الرخيصة بفوائد شبه صفرية استمرت لسنوات طويلة.
ومع الحرب الروسية على أوكرانيا الجارية حالياً زاد التضخم بنسب عالية بالسلع الغذائية بلغت 40 بالمائة على القمح والحبوب منذ بداية العام الحالي, وكذلك الطاقة, تحديداً الغاز والفحم الحجري اللذين ارتفعت أسعارهما بنسبة تفوق 300 بالمائة منذ عامين, وكان لما بعد عقوبات الغرب على روسيا منذ ثلاثة أشهر أثر واسع في هذه الزيادات.
أما النفط فكان أقلهم ارتفاعاً بنسبة تصل لحوالي 70 بالمائة قياساً بأسعاره قبل عام من تاريخنا الحالي, بينما تكمن مشكلة ارتفاع أسعار الوقود بتراجع إنتاج المصافي في العالم الغربي, أوروبا وأميركا على وجه الخصوص نتيجة لتنظيمات بيئية بالإضافة لارتفاع الضرائب العالية لديهم على البنزين والديزل وبقية المشتقات النفطية, أي أن أسعار النفط الخام ليست المسبب لهذه الارتفاعات وكميات الإنتاج كافية لتغطية الطلب رغم عقوبات الغرب على روسيا أحد أكبر منتجي النفط والغاز بالعالم التي تراجع إنتاجها النفطي 9 بالمائة مع العقوبات, حسب ما نقلته رويترز قبل أسبوعين.
إلا أن من المعروف أن الأزمات الكبرى ينتج عنها تغيرات عديدة أهمها ثقافات الدول والشعوب حيال نمطها وخططها وثقافاتها الاقتصادية, فالأزمتان الأخيرتان جائحة كورونا وحرب روسيا على أوكرانيا أظهرتا أهمية معالجة الدول لسلاسل الإمداد لديها بالتوجه جدياً نحو رفع معدلات الإنتاج الداخلي للسلع والخدمات وتقليل الاعتماد على الواردات, فانقطاع بعض السلع عن الأسواق أو تراجع إنتاجها المتسبب في رفع اأسعارها لا يمكن التغلب عليه إلا بعدة طرق أهمها التوجه للإنتاج الداخلي بحسب إمكانيات كل دولة وكذلك تنويع مصادر واردات تلك السلع.
فالتضخم لا يقف علاجه على سياسات مالية ونقدية لأنها قد تعطي نتائج سريعة لكنها غالباً لا تعالج كل الأعراض جذرياً, أما العلاج الحقيقي فيكون بزيادة الإنتاج وتنوعه مما يرفع من العرض بنسب تفوق نمو الطلب, ولذلك فإن هذه الأزمات رغم ما يصاحبها من آثار سلبية, لكنها أيضاً تعد حافزاً نحو نهضة اقتصادية وعلمية وبحثية واسعة وذلك لمنع تكرارها, أو الاستعداد لأي أزمة قد تحدث بالعالم مستقبلاً, خصوصاً أن العالم يعاني من أمراض مزمنة في اقتصاده بل وحتى في جوانب أخرى كالملفات السياسية وغيرها تسمح بتكرار الأزمات في فترات زمنية قصيرة, فيكفي العالم تضخم ديونه التي تخطت الـ 300 تريليون دولار حالياً أي قرابة ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالي العالمي بما يمثل خطراً كبيراً من انفجار فقاعة الديون بالمستقبل ففي عام 2017 كان حجم الدين العالمي 184 تريليون دولار أي في خمسة أعوام تضاعف أكثر من 60 بالمائة بينما نمو الاقتصاد العالمي لم يَنْمُ بأكثر من 15 بالمائة خلال نفس المدة.
فهذه الديون التي نمت بفترات الفائدة المنخفضة, تسببت بشكل كبير في ارتفاع التضخم, لأن نمو الائتمان والطلب على النقد السريع نسبياً بسنوات قليلة لم يقابله نمو مناسب في إنتاج السلع , وكان شبه ثابت ومتراجع قسرياً خلال عام الجائحة 2020 وتداخلت معها عوامل أخرى أهمها العقوبات على روسيا إحدى أكبر مصدري السلع بالعالم.
لكن التغيير لن يقف عند حدود توجهات الدول لزيادة استثماراتها لرفع معدلات الإنتاج داخلياً, بل سيصل التغيير إلى المستهلكين بتعديل ثقافتهم الاستهلاكية, فارتفاع الأسعار عالمياً لن يكون علاجه سريعاً فسيأخذ بعض الوقت الذي قدرته العديد من الدول والمؤسسات المالية العالمية بحوالي العامين, ولذلك سيتعين على المستهلك مراجعة نفقاته وتحديد احتياجاته, والبحث عن أفضل الأسعار, وسيقارن بأنواع العلامات التجارية من كل منتج من حيث الأسعار وغالباً ما يتجهون للترشيد وتقليل الهدر من خلال إعادة النظر بتقدير استهلاكهم الحقيقي واحتياجهم من كل سلعة, بالإضافة للاتجاه نحو الادخار قدر ما يستطيع, كما تتوفر لدى المستهلك ممكنات عديدة لترشيد استهلاكه, فالتقنية تساعده على معرفة الأسعار بكل مراكز التسوق التي تنشر مالديها من بضائع مرفقة بأسعارها, وكذلك العروض الترويجية فالغالبية سيركزون على الأساسيات من السلع والخدمات لأنها سلع غير مرنة أي لا يمكن الاستغناء عنها مهما ارتفعت أسعارها, لكن سيرشدون من استهلاكها بالقدر المناسب لاحتياجاتهم وهناك نماذج عالمية عديدة لشعوب تضبط استهلاكها بقدر احتياجها وقللت من أي مبالغات بالاستهلاك أو اتحاه للكماليات وكان ذلك بعد صدمات اقتصادية مرت بها دولهم من بينها ارتفاع معدلات التضخم.
الأزمات من رحمها تولد الفرص الاستثمارية وبالمقابل هي نقطة تحول ومنعطف في تغيير ثقافات الشعوب والدول في شتى السلوكيات والاتجاهات فكما غيّرت أزمة كورونا من ثقافات عديدة لدى البشر في احترازاتهم لحماية صحتهم فإنها أيضاً وجهت الكثير من الأموال نحو الاستثمار بالبحوث الطبية وكذلك إنتاج الأدوية والأجهزة الطبية والتضخم المرتفع حالياً سيكون له تأثيره بثقافات الشعوب الاستهلاكية وبتوجهات الدول نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الاساسية أو بنسبة كبيرة من استهلاكها وهو ما سيغير من خارطة التجارة الدولية وحجمها وتوجهات الاستثمار, وصعود التكتلات الاقتصادية بين الدول لمواجهة الأزمات وتحقيق التكامل والتعاون للتغلب عليها.
نقلا عن الجزيرة