يعرف الإخوة القراء أن العالم واقع تحت موجة تضخم قوية منذ نحو عامين، ولم يمر العالم بمثلها منذ أعوام. موجة التضخم هذه وراؤها أسباب على رأسها الهلع الذي جلبته جائحة كورونا ثم الأحداث بين روسيا وأوكرانيا وتبعات هذه الأحداث في الغرب والعالم.
الضغوط التضخمية اليوم أصابت الجميع من اقتصادات صناعية وناشئة، ونامية. ورغم اختلاف أسباب هذه الضغوط، إلا أن الحل بيد الجميع، لكنه يتركز في النهاية بيد البنوك المركزية الكبرى في العالم. واتخذت هذه البنوك في دول العالم خاصة الأكبر اقتصادا خطوات تستهدف خفض معدلات التضخم.
كيف؟ عبر مكافحة عوامل جلبت الموجة وتقوية عوامل تعاكسها التأثير، أي: تعمل على خفض التضخم. الهلع على رأس مسببات التضخم. هلع في الطلب وهلع سلبي بنقص في العرض. الأحداث زادت العرض النقدي وطلب الناس. زاد العرض النقدي مع تدخل الدول عبر بنوكها المركزية عبر ما يسمى برامج التيسير الكمي، بضخ سيولة كبيرة، لتخفيف مشكلات ضعف الدخول وكثرة العاطلين، بسبب الأزمة، وزاد جانب الطلب تخوفا من الأوضاع. وللتوضيح التيسير الكمي لا يسبب بالضرورة وبذاته موجة تضخم، بل تسببه يعتمد على عوامل وظروف أخرى، من قدرات إنتاجية وغيرها.
السؤال الذي يدور في أذهان الناس عادة، هل هذا الغلاء مؤقت أم مستمر؟ الموضوع معقد. هناك جزء من التضخم مطلوب لذاته لدفع النشاط الاقتصادي للتوسع. وهناك جزء نتج من صدمات في العرض. وهناك جزء معبر عن طبيعة النفوس، ما يجر إلى هلع. يقول سبحانه: "إن الإنسان خلق هلوعا". واستثنى سبحانه فئات، جعلنا الله منهم.
باختصار هناك من يرى أن الوضع مؤقت، وهناك من يرى أنه بحكم المستمر. من المستبعد نزول الأسعار، بل تدور التوقعات حول انخفاض حدة التضخم في المستقبل القريب. وانخفاض حدة التضخم راجع إلى توقع غلبة العوامل الكابحة للتضخم. وهي توقعات عرضة للتغير مع حصول تغير في العوامل التي قامت عليها التوقعات.
علام توقع انخفاض حدة التضخم؟
يرجع ذلك إلى اختفاء مجموعة من العوامل/الأسباب كوجود بنود إنفاق استثنائية وقتية للحكومات، وتوقع توقف موجة ارتفاع أسعار العقارات والأراضي.
من أسباب توقع انخفاض حدة التضخم أيضا كون معدلات نمو الإنفاق الحكومي للدول المتوقع في ثبات أو انخفاض هذا العام والعام المقبل، مقارنة بمعدلات النمو العالية في العام الماضي لمواجهة تبعات كورونا والأحداث.
من الأسباب أيضا توقع استقرار نسبي لسعر صرف الدولار أمام عملات كبرى. كما أن من الأسباب توقع تراجع الزيادات في أسعار الطعام عالميا، وتشير تقارير منظمة الزراعة والطعام العالمية "فاو" إلى تراجع حديث طفيف في أسعار الأطعمة. وتشير إلى توقع تحسن نسبي في إنتاج المحاصيل الزراعية العام المقبل. لكن من المهم التأكيد على أن هذه التوقعات عرضة للتغير جراء حصول ظروف مناخية أو سياسية أو اقتصادية مخالفة لما كان متوقعا.
من أكبر أسباب التوقعات السابقة الابتعاد النسبي وليس الكلي في التدابير المتزايدة التي تتخذها البنوك المركزية لمكافحة تأثيرات كورونا والخلافات السياسية بين الدول، مقرونة بجهود نسبية يبذلها القادة السياسيون في الدول لمحاولة تعزيز الثقة بصورة نسبية. كانت الشكوك كبيرة في الشتاء الماضي بأن تحقق هذه المجهودات نتائج إيجابية ذات بال، لكن يبدو أن في الأفق نتائج، وتبعا، يبدو أن تلك الشكوك قد انخفضت. والقول إن النجاح نسبي، بالنظر إلى أنه لا تزال هناك نقاط ضعف تجب معالجتها، خاصة وضع المؤسسات المالية العالمية. وقد ركزت بلادنا بقوة على أهمية التعاون الدولي لحل مشكلات المجتمعات.
رغم التوقعات السابقة، لكن من المهم الإشارة إلى أن لكل سياسة ثمنا. تحسن فرص التعافي وتحسن نمو الاقتصاد العالمي يقللان من قوة جهود مكافحة التضخم.
من العوامل التي تعمل على تقليل التضخم الانخفاض المتوقع في الإنفاق الاستهلاكي، نتيجة عدة عوامل كتوقع زيادة الفائدة، فانخفاض حجم الإقراض البنكي. في المقابل ارتفاع تكلفة البناء والتشييد يؤثران في تكلفة المعيشة للمستهلكين بعدة طرق كالإيجارات السكنية والتجارية. من العوامل المستجدة المقللة للتضخم تعديلات في برامج وسياسات الإقراض سواء الحكومي أو القطاع الخاص عبر البنوك التجارية العامة أو المختصة.
ومن نتائج هذه التعديلات توقع ضخ قدر أقل من السيولة في الأسواق مقارنة بما حصل في الشهور الماضية والعام الماضي.
باختصار تتجاذب التضخم عوامل كابحة وعوامل مغذية. والتوقعات حاليا للمستقبل القريب على غلبة العوامل الكابحة، ما يعني توقع معدل تضخم في النصف الثاني من هذا العام أقل مما سجل في النصف الأول. ولا شك في أن علاج المشكلة حاليا يساعد بقوة على عدم استفحالها. نسأله سبحانه أن ييسر أمورنا.
نقلا عن الاقتصادية