الاستقرار المعيشي بين الوظيفة والتجارة

27/04/2022 13
عبد الحميد العمري

هكذا هو الإنسان منذ خلقه الله، جبل على السعي وراء لقمة عيشه، وتختلف نهايات سعي البشر في ذلك حسبما كتبه وقدره لهم خالقهم، الذي قال - جلت قدرته - في محكم تنزيله «يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم» [سورة الشورى، الآية رقم 12]. ولا يسع المرء المؤمن في هذا الشأن إلا أن يسلم بما قدره الله له من حظ ونصيب، ليحظى بالرضا والطمأنينة بغض النظر عما قدر له أن يناله، كثر أو قل نصيبه من حطام هذه الدنيا الفانية، وإن لم يرض، فليس له إلا الشقاء وتعاسة الحال، ولن يغير أي مما يصارعه في داخل نفسه من الأمر شيئا.

وكما أن خالق العباد قسم بين عباده معيشتهم، فقد قسم بينهم القدرة والقوة والهمة والعقل وكثيرا مما يشكل في مجموعه واكتماله "شخصية" كل عبد من عباده، ويميز بينهم حسبما وهب كل واحد منهم، وهذا أمر معلوم وواضح للأغلب منا، ولا حاجة إلى الاستفاضة أكثر من هذا في شرحه وتوصيفه. إنما تأتي أهمية التذكير المختصر فيما تقدم، للخروج من حالة الجدال المحتدم والمتكرر من فترة إلى أخرى بين أنصار ترك الوظيفة ومصدر الدخل الثابت، والمبادرة نحو خوض تجارب التجارة والعمل الحر من جهة، ومن جهة أخرى المعارضين لتلك الفكرة، وتوجد بين الفريقين أطياف عديدة تمتزج أفكارها في هذا الخصوص، بأجزاء من الطرف الأول وأخرى من الطرف الآخر، بحثا عن التوازن الذي يتواءم مع سمات وقدرات كل فرد منا، وصولا إلى أنه لا توجد وصفة حياتية واحدة في هذا الشأن، يمكن القول عنها إنها الوصفة الأوحد التي يجب الأخذ بها، بل لا بد أن ينظر المرء إلى ما يتقنه ويستطيع النجاح والتميز فيه، ومن ثم الإقدام على اتخاذ القرار الأنسب بالنسبة إليه، دون النظر إلى أي الاتجاهين سيذهب، بل بالتركيز على ما يتقنه المرء نفسه، وتتوافر لديه الإمكانات اللازمة والكافية ليحقق فيه النجاح والتفوق والتقدم، وهو المسار الأكثر عقلانية وموضوعية، والمتوافق تماما مع ما قاله رب العزة والجلال في محكم تنزيله «نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمت ربك خير مما يجمعون» [سورة الزخرف، الآية رقم 32].

لا يعني نجاح أحدهم في مجال بعينه حسب تجربته الخاصة، أنها التجربة التي يجب على البقية أن يخوضوها كما خاضها صاحب هذه التجربة، سواء كانت كتجربة وظيفية، أو كتجربة في عالم التجارة والأعمال الحرة! وكم هو من الخطأ الفادح والكبير، أن يختتم أصحاب مثل تلك الرؤى والأفكار والتجارب التي يروجون لها صباحا ومساءا بقولهم، "اسأل مجرب ولا تسأل خبير!" لتأكيد صحة طروحاتهم القائمة أولا وآخرا على مجرد "تجربة خاصة"، شاء الله أن ينجح فيها، ومتجاهلا لمن لم يعرف أو يسمع عنهم ممن سقطوا في ورطات كارثية، أدت بعديد منهم إلى الوقوع تحت كثير من العقوبات والجزاءات، التي وصلت بعديد منهم إلى السجن لأعوام طويلة في أقسى الأحوال!

لا يعني أي ما سبق ذكره أعلاه أن تبقى مستسلما لوضعك الراهن! بل على العكس تماما كن طموحا ومتطلعا دائما نحو الأفضل بالنسبة إليك، لكن بعيدا عن المغامرات غير محسوبة العواقب، وبعيدا عن أحلام اليقظة وسحر الأوهام، ومدفوعا بالارتكاز في كل خطوة مقبلة على أرض صلبة تعرفها أنت جيدا قبل غيرك، لا حسب ما يصف لك آخر في عالمه الذي لا تمت أنت إليه بأي صلة!

ليس صعبا أبدا أن نتفهم جميعا، أنه ليس شرطا - ولم يقل أحد بذلك - أن يكون الجميع مرتبطين بوظائف، والعكس أيضا صحيح، أنه ليس شرطا - ولا يمكن القول بذلك - أن يتجه الجميع إلى الابتعاد عن الوظائف والاتجاه نحو التجارة وكسب العيش بعيدا عن قيود الوظيفة! "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا".

إنما غير المفهوم هنا، أن يأتي البعض عكس هذا التيار المتوافق مع حقيقة الحياة، ضاربا بكل ما تقدم من سمات خاصة لكل فرد، وبالسنن التي وضعها رب العزة والجلال لخلقه، فيقرر على سبيل المثال: أن على الجميع الاتجاه نحو هذا الاتجاه أو عكسه! ويزداد الأمر سوءا أن يتمادى في الاستهزاء والسخرية بالاتجاه الآخر الذي يطالب بالهروب منه! ومثل هذه الأوهام "لا يمكن وصفها بالأفكار أو الآراء لافتقارها لأي مرتكز صلب" لا ينم تبنيها من قبل أي فرد، إلا على محدودية في فهمه للحياة، ورصيد فقير جدا من مخزون تجاربها! ومما يؤسف له أن من قد يدفع الثمن الفادح لمثل هذه الأوهام، أفراد آخرون غير هذا الحالم الواهم، وتزداد فداحة ذلك الثمن كلما كان الوضع السابق لمن تهور مستجيبا - على غير هدى - لتلك الأوهام مناسبا له، وكان صاحبه راضيا وفخورا به، والآن قد فقده بعد الاستجابة غير مدروسة العواقب والمخاطر!

ختاما، كن أنت - بعد التوكل على الله - كما تريد، وكما يحقق لك الرضا والسعادة الداخلية، وحسبما تمتلك بالقدر الكافي من مؤهلاته! وابتعد عما تفتقر إلى أدنى اشتراطات النجاح فيه! وبحال لم تستطع خلال المرحلة الراهنة أن تكون كما تريد وبما يحقق لك الرضا والسعادة وبما تمتلك من مؤهلات، فعليك أن تتذكر قوله تعالى «يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم»، فلا توقع نفسك في ألم السخط والتذمر، بل ادفعها إلى بذل مزيد من الجهد والبحث متوكلا على الله، وتذكر أن تعايشك مع أوجاع المرحلة الراهنة، سيمر بقبول ما قدره الله لك إيمانا واحتسابا دون أن يخلف لك آثارا موجعة نفسيا أو جسديا، وخلاف ذلك - لا قدر الله - فلا شك أنك قد تدفع ثمنا أفدح كثيرا مما كان ممكنا تجنبه تماما بقدر كاف من الإيمان والاحتساب عند خالق العباد.

 

نقلا عن الاقتصادية