التطورات التقنية والتوظيف

11/04/2022 0
د.صالح السلطان

ما علاقة التقنية بالتوظيف والوظائف؟ ما تأثير الأولى في الثانية؟

موضوع نقاش ليس بجديد. ليس بوليد ما نشهده من ثورة تقنية، يسميها البعض الثورة الرابعة، بل هو قديم بدأ مع بداية الثورة الصناعية الأولى قبل قرنين تقريبا. وقتها كانت هناك توقعات سلبية قوية من البعض تعبر عن مخاوف مستقبلية بأن الآلة ستغني عن توظيف كثيرين. بمعنى آخر، رأوا أن تلك الثورة ستضعف الحاجة إلى كثيرين، ما ينتج عطالة كبيرة. لكن هناك من توقع العكس. وهو ما وقع. كيف؟ جلبت الثورة الصناعية فرص توظيف جديدة لم تكن بالحسبان. بل تعدى الأمر إلى حدوث تحسن ملحوظ في أوضاع التوظيف والعاملين من جوانب عديدة، معاشية وغير معاشية. وطبعا فرص التوظيف الجديدة تطلبت تطوير مهارات قائمة أو امتلاك مهارات جديدة.

التوقع العكسي كانت وراءه المدرسة الاقتصادية المسماة في تاريخ تطور علم الاقتصاد والفكر الاقتصادي بالمدرسة الكلاسيكية الجديدة. هذه المدرسة أعطت مزيد اهتمام لقضايا السوق ومكوناتها وكيف تعمل. وساعد هذا المنهج على تحسين التوقعات الاقتصادية.

هل يتكرر الوضع؟ هل نشهد رأيا أو اختلافا في توقع التأثير للثورة التقنية الرابعة؟ هناك خلافات، وهي بطيعية الحال ليست أمرا غريبا، فالبشر مختلفون في فهم الأمور على مدى التاريخ. لكن فهم الخلافات ومحاولة الترجيح بينها يتطلبان فهما عميقا للأمر.

رغم ما جلبته الثورات الصناعية من محاسن، فقد أخفقت في معالجة مشكلات. ربما على رأس المشكلات تزايد ما يسمى فقد المساواة، وبتعبير أدق، لم تجلب الثورة الصناعية مزيد عدل ذا اعتبار في الفروق بين البشر في المعاشات والأجور الوظيفية. بل ربما رأى البعض أن الفروق زادت ولو في مجتمعات بعينها. لكن في المقابل، زاد متوسط الأعمار وقلت ساعات العمل الأسبوعية، وشرعت حقوق مثل إجازات مدفوعة الأجر.

تلك المحاسن والمشكلات متفاوتة بين المجتمعات في الوقوع والتأثر. في الصين مثلا، يلحظ أن القائمين على المصانع في قطاع الصناعة التحويلية يبحثون باهتمام قوي منذ أواخر القرن الميلادي الماضي ودخول هذا القرن، لوحظت شدة اهتمامهم بالبحث عن فرص تزيد من قوة منافستهم للصناعة الغربية. وتبعا، وضعوا في الحسبان استبدال آلات "روبوتات" محل عاملين. كان من عوامل حصول هذا الاهتمام ودوافعه بدء انتشار الهواتف الجوالة، وما تبعها من نشاط توسعي في استعمال الإنترنت، ما سهل التوسع في المبيعات دون حاجة إلى توسع في التوظيف.

بدايات عصر الحاسب كانت في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الميلادي الماضي. وقتها حصل تخوف من كون الحاسب سيكون أفضل من البشر. لكن ما حصل أن زادت قيمة أعمال بعض البشر مع تحسن مهاراتهم، حتى في مجالات ومهارات غير مبنية أو معتمدة على الحاسب.

لكن تحسن المهارات مرتبط بأساسيات العمل والإدارة، التي تقوم عليها أعمال البشر عبر القرون. مثلا، هل الإدارة جيدة أو سيئة؟ جودة المديرين تضيف قيمة أعلى، ليس فقط من جانب النتائج المالية فقط، بل أيضا من خلال تحسين ورفع مستوى أداء الفريق العامل تحت الإدارة. من البعيد جدا أن تكون التقنية المتطورة بديلا لجودة الإدارة. وتأكد هذا الأمر خلال أزمة كورونا. على سبيل المثال، أداء الشركات المدارة بشكل أفضل كان أعلى خلال الأزمة وهكذا. ومن جهة ثالثة، التطور التقني لن يلغي الجانب البشري في أوضاع التوظيف والعطالة. لكن التهميش تحت حدود وفي مجالات وارد جدا. على سبيل المثال، الأعمال المعتبرة ضمن الوساطات معرضة للتهميش، حيث يسهل استبدال الوسطاء التقليديين بأجهزة الحاسب.

وعودة إلى موضوع تحسين المهارات، فإنه يفتح الباب لمزيد نقاش حول دور مؤسسات التعليم العام والعالي والفني.

ما يقترح تحته إدخال وتطوير برامج في التعليم يساعد على فهم المتغيرات، وعلى فهم كيفية التأقلم ومحاولة تطوير المهارات، حسب متطلبات التغيرات والتطورات التقنية. هذه التطورات لا تستلزم إدخال مقررات مهنية وتقنية كاملة في التعليم، لكن المقصود إعطاء نوع تثقيف وخلفية ومهارات تساعد على تأقلم العاطلين وإكسابهم معرفة وخبرة في مجالات عمل غير ما اعتادوا عليها. لماذا؟ معدلات العطالة متفاوتة حسب طبيعة ومجالات المهن والعمل، فهي تزيد في مجالات دون مجالات. ومن ثم ينبغي أن تتاح الفرصة للبعض لاكتساب مهارات تساعدهم على تغيير مجال العمل لو آلت بهم ظروف إلى تعطل طويل راسخ، وكانت الفرصة قوية للعمل في مجال آخر.

كما أن من الممكن اكتساب بعض التطوير السابق بما يقلل من الفجوات التقنية بين جيل دراسي وجيل دراسي عبر التعليم عن بعد جزئيا، إن كان من الصعب الاكتساب بالحضور.

يزداد ظهور المشكلة في وقتنا مع الثورة التقنية الرابعة. خبرات ما سبق قد لا تسعف كما ينبغي فيما تطلبه خبرات الثورة الرابعة، وهكذا.

هنا مجال للهيئات ذات العلاقة، كوزارة الموارد البشرية وهيئة التعليم الفني، في بحث المشكلة بتوسع وعمق للوصول إلى أنسب الحلول من حيث الوقت والتكلفة ومجاراة الرغبات. وأكرر القول بأنسب الحلول، أو أقلها إشكالا، لأنه بطبيعة الحال من المحال تقريبا الوصول إلى حلول مثالية، تلبي الرغبات كما هي دون أي آثار غير مرغوب فيها.

هذه قضية بالغة الأهمية، بالنظر لتوقع أنواع عطالة في مجالات دون مجالات مستقبلا، مع التغيرات التقنية المتسارعة. وينبغي أن تقابل هذه التغيرات حلولا وسطا، هدفها زيادة فرصة توظيف العاطل عبر اكتسابه مهارات غير ما تعود عليها.

 

نقلا عن الاقتصادية