مرة تلو أخرى تتعاظم حاجة المنظمات عموما بجميع أشكالها إلى إدارة المخاطر كأولوية عمل، فبعد أن ظن العالم أجمع بأنه قد نجا من فخ التباطؤ الاقتصادي الذي تسبب به كورونا، ها هي الحرب في شرق أوروبا تعود به، والذين غالبهم التفاؤل تماما حتى انطلقت بهم مفاهيم الجودة في رتابتها ووثائقها التي تصيبك بالملل وتهدر الموارد في سعي نحو الكمال لا يعرف الكلل كما يقال، فلا وصلوا إلى الكمال وفوجئوا بالحرب التي أعادتهم إلى سيرتهم الأولى، مشكلات هائلة في سلاسل الإمداد، وتقلبات حادة في اتجاهات الشحن، وارتفاع في أسعار النفط ليست سوى رأس جبل الثلج، فما تخفيه هذه الحرب يبدو أكبر بكثير مما تظهره، الجميع متربص بالجميع، هكذا فإن من سعى بالجودة كأولوية ليس كمن وضع المخاطر أمام عينيه وتوقع الحرب مع بداية إرهاصاتها.
تقوم دارسة المخاطر على أبعاد معروفة بحسب النموذج المتبع، وشخصيا، لا أرى أجود من نموذج كوسو COSO، وأيا ما كان النموذج المتبع، فإن أهم ما في إدارة المخاطر هي آليات التفكير فيها، وآليات توقعها، هناك كثير مما يمكن تدريسه
والتدريب عليه لكن لا غنى عن العصف الذهني، توقع ما لا يمكن توقعه، فدراسة المخاطر ليست رهانا بل هي وضع جميع الاحتمالات في الحسبان، فلا تترك احتمالا دون ما تعد له عدته، ومع إدارة المخاطر فإن العدة هي التخطيط والخطط البديلة، وهي الإجراءات التي يجب اتخاذها، هي المراقبة الحازمة للخطر ونقاط حدوثه، فلا تترك شيئا للمصادفة، كل شيء متوقع، كل شيء يمكن أن يكون صحيحا، لذلك كن مستعدا.
لقد راهن كثير على عدم قيام الحرب وأن روسيا لن تندفع في استفزاز حلف الناتو، استفزازا قد يقود إلى حرب نووية، لكن المراهنة شيء وإدارة المخاطر شيء آخر، فقد اندلعت الحرب فعليا، وأصبح الجميع أمام مشهد خطير للغاية مع عبارات من مثل لا معنى للعالم دون روسيا، لقد ظن الجميع أن نار الحرب العالمية التي انكوت بها أوروبا لم تزل تدق نواقيس الحذر، فلا أحد يقترب مرة أخرى من زناد البندقية، لكن هذا حدث فعلا ولم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت الرصاص، من راهن على أن الحرب لن تقوم، كان يظن أن الوضع الاقتصادي العالمي وأسعار النفط ووجود الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتفاقيات الأولية، كلها كافية للحد من الحرب، فلا أحد يرغب في فوضى عارمة في الأسواق العالمية، لكن كان هناك من يرى بأن كل ذلك غير مهم أو غير أولوية، هكذا اندلعت الحرب.
في عالم إدارة المخاطر، فإن الحرب متوقعة باحتمالات معينة، قد لا تكون كبيرة لكنها في الصورة تماما، ولذلك لا بد من دراسة تأثيرها، وتطوير خطط للتخفيف من تلك الآثار، هذه الخطط تتمثل في تعزيز الإجراءات أو نقل المخاطر إلى الآخرين أو مشاركتها معهم، والاختيار بين هذه البدائل يعتمد على الظروف الراهنة للمنظمة، قد لا تتأثر المنظمة بالحرب مباشرة، لكن حتما ستتأثر ولو بسبب ارتفاع الأسعار والتضخم، وهنا تحتاج إلى مزيد من الإجراءات والتحوط، في عالم المخاطر لا توجد عبارة في ظني أن ذلك سيحدث أو أظن أنه لن يحدث ومهما كانت مبرراتك، بل يوجد احتمالات حدوث وحجم التأثير، كل شيء ممكن أن يحدث اليوم حتى الحرب النووية، ولو بقدر من الاحتمالات الضئيلة لكنها تظل محتملة، وبحسب الوقائع جدد قياس احتمالاتك وكن مستعدا. لكن رغم وضوح هذه المسألة وأن إدارة المخاطر تتطلب التبصر بالأحداث وقياس الاحتمالات، فإن الأصعب هو ثقافة هذه التبصر، ثقافة أن تتحدث علنا بهذه المخاطر وتضع احتمالاتك وتضع الإجراءات الكفيلة بها، فعندما نتحدث عن أي مخاطر فإن الثقافة السائدة ترفض ذلك على أساس أن مثل هذا التفكير يعني التشاؤم، لكن هذا قول خاطئ تماما، فالتشاؤم والتفاؤل ليس لهما علاقة بما نحن بصدد الحديث عنه، فالتفاؤل بالخير لا يعني التحوط من حدوث الأسوأ.
العالم اليوم يتغير بسرعة هائلة، ولذلك فإن النوافذ المتاحة لنا للتنبؤ الصحيح بالأحداث تصبح أقل يوما بعد يوم، ومع ذلك فإننا في حاجة إلى المضي قدما وفي عالم متغير بهذه الحدة، فإن ثقافة الجودة التي كانت سائدة لن تكون مجدية بل هي مهدرة للموارد كما أوضحت ذلك مرارا، ومن يضع المخاطر فرعا من فروع الجودة لم يدرك بعد الحالة العالمية الراهنة، والوضع القائم الآن هو أن الجودة ليست سوى بعد من أبعاد المخاطر المتعددة، وهي تأتي في سياقات أخرى تتقاطع معها، مثل السمعة والمنافسة، بينما أفق المخاطر أكثر اتساعا، وأكاد أجزم اليوم أن الذي لم يضع هذا التصور كأساس للعمل ويترك مفاهيم الجودة على الرف، فلن يجد له متسعا في المستقبل القريب المنظور، فالجودة في عالم ضبابي تظل عمياء بينما المخاطر مبصرة.
نقلا عن الاقتصادية