قرر المجلس الوزاري لمنظمة أوبك وحلفاء المنظمة في «مجموعة أوبك بلس»، من ضمنهم روسيا، في اجتماعهم الافتراضي الأسبوع الماضي الالتزام بسياسة «المجموعة» بزيادة الإنتاج حوالي 400 ألف برميل يوميا للشهر المقبل. من المعروف أن «المجموعة» بدأت هذه الزيادة الشهرية للإنتاج منذ شهر أغسطس (آب) الماضي. الهدف من الزيادة الشهرية هذه هو التعويض عن خفض الإنتاج أثناء فترة الذروة لجائحة (كوفيد - 19) حين اضطرت الدول المنتجة لتقليص الإنتاج في حينه بسبب انخفاض الطلب وتدهور الأسعار.
لكن رغم هذه الزيادة الشهرية للإنتاج، انهالت وسائل الإعلام العالمية بانتقاد «المجموعة» لعدم مراعاتها ارتفاع الأسعار وغزو أوكرانيا.
حاولت وسائل الإعلام في حملتها الواسعة لتغطية حرب أوكرانيا إلقاء مسؤولية ارتفاع الأسعار على عدم تجاوب «المجموعة» مع زيادة أعلى في الإنتاج الشهري لاستيعاب الآثار الاقتصادية المترتبة على الحرب. تجاهلت وسائل الإعلام في نفس الوقت حقيقة أنها لم تشر إلى أي خبر عن رفض أو عدم تمكن إحدى الدول في «المجموعة» تنفيذ أي عقد لتسليم النفط للشركات في موعده أو تسليم الكمية المتفق عليها حسب العقد.
تحاول وسائل الإعلام كما يحاول بعض المسؤولين السياسيين في الدول المستهلكة الغربية إلقاء اللوم في غير محله. ففي حين أن الأسواق في حال من توازن العرض والطلب. بينما المشكلة هي في ارتباك الأسواق من تطورات الحرب (وليس أقلها البدء بقصف المفاعلات النووية الأوكرانية ومدى خطورة هذه الخطوة مستقبلا، في حال تكرارها أو الرد بالمثل، وما يعني ذلك من مخاطر على السكان في أوكرانيا والبلاد المجاورة. بالذات لأن تجربة «تشرنوبل» لا تزال في ذاكرة الملايين من الناس). وهناك أيضا القلق في الأسواق في حال شراء نفط أو غاز روسي، وهذا متوفر ومسموح له حتى كتابة هذه السطور، لكن القلق أن يصدر قرار غربي مفاجئ لمقاطعة النفط الروسي (تبلغ صادراته 5 ملايين برميل يوميا من النفط الخام، أو 12 في المائة من تجارة النفط العالمية. تتجه 60 في المائة من الصادرات النفطية الروسية إلى أوروبا وحوالي 20 في المائة إلى الصين).
ومنعت ناقلة غاز مسال روسية مؤخرا من تفريغ حمولتها في ميناء بريطاني. واستمرار استعمال هذه العراقيل في التجارة النفطية، هي من صلب الصراع الجيوسياسي ما بين روسيا وأقطار حلف الأطلسي في نزاع جديد من نوعه بينهما. إذ حين تشن روسيا حربا على أوكرانيا، حيث الخراب والدمار والمآسي للسكان، لا تشن دول حلف الأطلسي هجوما مضادا لصده. بل تعلن حصارا ومقاطعة ضد روسيا، لإضعاف اقتصادها، بالذات منع التقنية الحديثة لصناعتها البترولية الضخمة. وهذا هو السبب الرئيسي في انسحاب كبرى الشركات الأوروبية (بريتش بتروليوم، شل، توتال إنرجي وغيرها) من مشاريعها المشتركة مع الشركات الروسية النفطية (غازبروم وروسنفت). يكمن الهدف من هذه الانسحابات في تقليص الطاقة الإنتاجية النفطية الروسية مستقبلا، وتوجيه ضربة قاسية للاقتصاد الروسي، ولواحدة من أكبر الصناعات النفطية والغازية العالمية. وطبعا، البديل لهذه السياسة هو تصادم جيوش حلف الأطلسي وروسيا وجها لوجه فيما يمكن أن يتطور إلى حرب عالمية ثالثة.
في نفس الوقت نجد وكالة الطاقة الدولية تتهم دول «المجموعة» بالتقصير في كمية زيادة الإمدادات الشهرية، لكن لا نجدها تأخذ المبادرة بنفسها لزيادة إنتاجها النفطي، بل تستمر في المحافظة على نفس معدلات إنتاجه، رغم فترة الانتعاش الاقتصادي بعد «كورونا»، ومن ثم الحرب. هذا، رغم وجود دول بترولية مهمة أعضاء في وكالة الطاقة الدولية (مثلا: الولايات المتحدة، وكندا، وبريطانيا والنرويج) نجد أن جل مساهمتها هو تحديد ستين مليون برميل من احتياطاتها الاستراتيجية البالغة مليارا ونصف مليون برميل لدعم الأسعار. ولم تعتبر الأسواق هذه الكمية الضئيلة من أقطار الوكالة البالغ عددها 31 دولة إمدادات كافية. فمن ناحية نصفها هو من الاحتياطي الاستراتيجي الأميركي. والأهم أنها قليلة بشكل كبير، إذ إنها غير كافية حتى ليوم واحد من الاستهلاك العالمي البالغ 100 مليون برميل يومياً.
هنا يتوجب التنويه أن الغرض الأساسي من المخزونات الاستراتيجية ليس لكبح ارتفاع الأسعار، بل لتعويض أي نقص أو تأخير في الإمدادات المصدرة، وطبعا لم تشر الوكالة إلى نقص في الإمدادات من أي دولة منتجة. ونظرا لضآلة ما قررت الدول الغربية إمداد الأسواق به وعدم ثقتها بأهميته، كان رد الأسواق هو رفع الأسعار إلى نحو 120 دولارا لنفط برنت.
يأتي غزو روسيا لأوكرانيا بعد سلسلة متواصلة من الاضطرابات في الاقتصاد العالمي. فالعالم يعاني منذ سنتين بإصابات «كورونا» وملايين الوفيات، وأشهر من الإغلاق التام من ناحية. كما هناك، من ناحية أخرى، الإجراءات المتعددة لتحقيق تصفير الانبعاثات التي نتج عنها تخفيض الصين استهلاك الفحم الحجري وتعويضه باستعمال الغاز الطبيعي الأقل تلوثا، مما أدى إلى زيادة الطلب على الغاز وزيادة سعره في الشرق أقصى لمعدلات قياسية نحو 40 دولارا لمليون وحدة حرارية بريطانية. أدت هذه الزيادة بدورها في الطلب على الغاز إلى ارتفاع الطلب على النفط لكي يساعد في التعويض عن الغاز. كما تبنت الشركات البترولية إجراء آخر في أوروبا الغربية، إذ قلصت من معدلات مخزونها الغازي قبل فصل الشتاء، وذلك لتقليص الاستثمارات البترولية المطلوب منها من قبل وكالة الطاقة الدولية. وقد نبه العديد من الخبراء والمراقبين من خطورة المستوى المتدني من المخزون الغازي قبل حلول فصل الشتاء، نظرا لازدياد الطلب في نصف الكرة الشمالي حسب تجارب السنوات الماضية من برودة الطقس القارصة خلال هذا الفصل. وبالفعل ارتفع الطلب على الكهرباء للتدفئة ولم تتوفر الإمدادات الكافية، فتم اللجوء مرة أخرى إلى المنتجات البترولية لتعويض النقص في الغاز، الأمر الذي أدى بدوره أيضا إلى ارتفاع أسعار النفط.
السؤال: لماذا تتمسك أقطار «المجموعة» بزيادة الإنتاج الشهري بحدود 400 ألف برميل يوميا؟ لعل هدف المجموعة من هذا القرار هو استقرار الأسواق إثر جائحة «كورونا». فإذا طرأت عوامل جيوسياسية أو طبيعية تلهب الأسواق، يتوجب عندئذ على الدول المنتجة الأخرى غير الأعضاء في «المجموعة» ذات الطاقة الإنتاجية البترولية المساهمة أيضا بزيادة الإنتاج، بالذات أن هذه الدول هي نفسها في صلب الصراعات الجيوسياسية القائمة أو ذات المبادرات للتحول من عصر طاقة إلى عصر آخر دون الأخذ بنظر الاعتبار أهمية النفط والغاز الأخضر (الخالي من الانبعاثات الكربونية والميثان). كما أن «المجموعة» تحاول أن تحافظ على تماسكها والالتزام بسياساتها في نفس الوقت الذي تتحفظ فيه بعض أقطارها على حجم الزيادة الشهرية لعدم توفر الطاقة الإنتاجية الفائضة لديهم.
نقلا عن الشرق الأوسط