الأمور المعاشية وفهمان دينيان متطرفان

07/03/2022 4
د.صالح السلطان

نعرف أن الإسلام ينظم حركة الحياة كلها. وهناك فهمان متطرفان عن حدود هذا التنظيم، ولأمور المعاش خاصة.

أصحاب الفهم الأول حاولوا حصر الدين في العبادات، في الشعائر المعروفة. وهذا يعني عزل الإسلام عن حركة الحياة. ولكننا نعرف أن الشريعة تناولت حياة الناس من عبادات ومعاملات وغيرها، قال الله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما".

تدخل الوحي فيما يخضع للتجربة ليلفت أذهان البشر للاعتبار والاستنباط.

مقابل الفريق الأول نسمع ونقرأ لبعض الناس عبارات من قبيل "في شريعتنا الإسلامية حل كل مشكلاتنا المعاشية، بل حل كل مشكلاتنا الاقتصادية عامة، وإلا لما كان دينا كاملا، صالحا لكل زمان ومكان".

ما قاله الفريق الثاني من المجمل الذي يحتاج إلى توضيح وبيان بالمقصود، ومن يقوله بإطلاق يسيء فهم طبيعة تلك المشكلات وتعقيداتها، ويقحم الشريعة في تفاصيل من أمور الدنيا ترك الخالق بحثها للبشر.

نحن نعرف أن الدين كامل، ولكننا في الوقت نفسه نعرف أن الشريعة لم تأت لتعلمنا كيف تعمل السوق، وكيف ترتفع الأسعار، وكيف نقيس هذا الارتفاع؟ وكيف نفهم العلاقة بين كمية النقود ومستوى الأسعار؟ وكيف يؤثر ارتفاع الدخل في الأسعار؟ وكيف نقيس هذا التأثير؟ كيف يتغير الاستهلاك من جراء ارتفاع سعر سلعة ما؟ لم تأت لتعلمنا أنواع أسعار الصرف، وكيف تقاس، وما الذي يؤثر فيها، وكيف يؤثر؟ وأيها أصلح وأنفع للبلاد؟ اتباع نظام سعر صرف ثابت إزاء عملة واحدة أو مجموعة عملات أو ترك العملة حرة؟ لم تأت الشريعة لتعلمنا كيف نوزع/نخصص allocate الموارد بين بدائل استخدام كثيرة، مثلا، كيف توزع/تخصص الأموال (سواء للحكومة أو للشركات) على أوجه الإنفاق، كالرواتب والصيانة والبنية التحتية وغيرها؟ ما أنسب المعايير التي تحكم التوزيع، وما ماهية هذه المعايير، وعلام اختيرت؟ ما تأثير طريقة التوزيع في النمو الاقتصادي؟

لم تأت الشريعة لتعلمنا طبيعة العلاقة بين مستوى الأجور والتضخم والبطالة، أو بين قيمة الأسهم وأوضاع الاقتصاد أو تأثير السياسات الحكومية في عمل السوق. لم تأت لتعلمنا كيف نتعرف على هذه العلاقة وندرسها سببيا وباستخدام الأدوات الكمية. لم تأت لتعلمنا أيهما أنسب للمجتمع وكيف؟ أن تقوم الحكومة مباشرة بتوفير الخدمة الصحية، أم تتركها للناس (القطاع الخاص)، ومقابل ذلك توزع عليهم ما كانت تنوي إنفاقه على الرعاية الصحية، وما تأثير كل اختيار في الناس على المديين القصير والبعيد، ووفقا لاعتبارات كثيرة كدخول الناس وأماكنهم وأعمالهم ... إلخ؟ هذه أمثلة من المشكلات والقضايا الاقتصادية التي ترك المولى - سبحانه - أمر بحثها للعباد، وهي أكثر من أن تحصى.

وما قلته لا يتنافى مع إيماننا بأن المصائب ومنها المشكلات الاقتصادية إنما هي من الناس. ورغم الإيمان بما سبق، إلا أنه لا يمنع من البحث في الأسباب المادية، مثلما أننا نؤمن بأن المرض والشفاء من الله، وأن المرض مصيبة من المصائب المشمولة بالآية، وما كان ذلك مانعا من البحث في أسباب المرض وطلب العلاج.

أخرج الإمام مسلم عن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: "مررت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم على رؤوس النخل، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ما أظن يغني ذلك شيئا. قال فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله - عز وجل".

وتعليقا على هذا الحديث، قال ابن باز - رحمه الله:

"... فقد أجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ولا سيما خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - معصومون من الخطأ لما يبلغونه عن الله - عز وجل - من الأحكام. أما في أمور الدنيا فقد يقع الخطأ ثم ينبه على ذلك. ثم ذكر ابن باز، تعليقا على الحديث السابق، أنه - صلى الله عليه وسلم - بين للناس أنهم أعلم بأمور دنياهم كيف يلقحون، كيف يغرسون، كيف يبذرون، كيف يحصدون إلى غير ذلك من أمور دنياهم، كيف يعمرون مساكنهم إلى غير ذلك. أما ما يبلغه عن الله من أمور الدين من العبادات والأحكام هذا حلال وهذا حرام، إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا، أو أن هذا فيه كذا من النفع وهذا فيه من الضرر كذا، هذا كله حق، ولا ينطق عن الهوى - عليه الصلاة والسلام - بل هو معصوم في ذلك ...".