الحرب الروسية ــ الأوكرانية لها آثار اقتصادية متعددة المحاور. ربما كان التضخم أوضح هذه المحاور. وهو موضع التركيز في هذه المقالة.
يعبر عن أي ارتفاع في الأسعار بصورة مستمرة بمصطلح التضخم inflation. ويعبر عن هذا المصطلح رقميا بمعدلات خلال فترة زمنية محددة، كالشهر والعام.
يعاني العالم غلاء في الأسعار، وزادته أحداث الاجتياح، زادت من أسعار النفط وغير النفط، والطعام خاصة. ذلك أن الحروب والنزاعات الكبيرة تسبب درجة من الاضطرابات والآثار السلبية في الإمدادات والقدرات الإنتاجية والتصديرية في السلع، وما يتبع ذلك من تدافع وتزاحم مسبب للتضخم. وللتدافع عدة صور وقوة التأثير في السلع تختلف حسب طبيعة كل سلعة.
لماذا تسبب الاجتياح الروسي في ارتفاع أسعار النفط؟ لأن الاجتياح تسبب في مشكلات قوية تواجه مصادر العرض والتصدير، خاصة في مناطق النزاع، وهي مصادر نفطية كبيرة. لكنه في المقابل تسبب في زيادة الطلب على نفط دول الخليج خاصة، نظرا لإمكاناتها وموقعها، وذلك من فضل الله.
تسبب الاجتياح في موجات تدافع نحو الأصول المالية الأكثر أمانا، ولو على حساب العوائد والتضخم. وهذا أمر طبيعي فزيادة الأمان لها ثمن. ومن الثمن ترك أصول أعلى عوائد، لكنها أقل أمانا، من الأضرار انقطاع ولو جزئي في تدفق الحبوب خاصة وأطعمة أخرى عامة. روسيا وأوكرانيا من أكبر الدول المصدرة للأطعمة، وخاصة الحبوب. بل هي الأولى في تصدير بعض الحبوب. والانقطاع سيترجم إلى غلاء في أسعار الطعام طبعا. وارتفاع الأسعار فيها عبر نسب التضخم فيها.
لمواجهة الغلاء، تتبنى الدول سياسات تستهدف خفض معدلات التضخم. وهذا الاستهداف قد ينجح بخفض المستوى العام للأسعار وقد ينجح بمنع أو تقليل ارتفاعه مجددا ارتفاعا بينا. وهناك موضوع آخر مستقل وهو تعويض الغلاء، من خلال وسائل تعويض مادي، تخفف عن البعض آثار الغلاء، سياسات مكافحة التضخم أو احتواء الغلاء ليست بالضرورة أنها من دون آثار جانبية غير مرغوب بها. وهنا تدخل مسألة الموازنة بين المنافع والأضرار، ومحاولة تقليل الأضرار بقدر ما يمكن.
تعتمد جهود الحكومات في احتواء التضخم تقليديا على التأثير في سياسات المالية العامة "بالأخص سياسات الضرائب والإنفاق الحكومي" والسياسات النقدية. وهناك على المستوى العالمي مزيد اهتمام بسياسات ضبط الأجور ورقابة الأسعار أو التسعير وتشجيع المنافسة ومكافحة الممارسات غير المشروعة، أما من جهة تعويض الغلاء، فتهتم دول كثيرة بتعويض الفقراء وذوي الدخول المنخفضة بمخصصات مادية نقدية وعينية لتحسين مستوى معيشتهم. والدارسون في أمريكا يتذكرون طوابع الطعام food stamps التي تصرف للفقراء والمساكين، التي تتيح لهم الحصول على أطعمة، تتحمل السلطات قيمتها.
من الوسائل دعم المخصصات المتدنية للعاملين في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ولتقليل سوء الفهم، السياسات الأخيرة لا تهدف إلى احتواء التضخم، بل التركيز على مساعدة العائلات المحتاجة في مواجهة الغلاء. وتنفيذها يتطلب تنظيمات وقدرات بشرية، حتى لا يساء التطبيق، زيادة العرض من السلع عامة تأخذ وقتا، لكنها ستعمل على توسيع طاقة الاقتصاد الاستيعابية.
ماذا بشأن سياسات النقود؟ تأثيرها محدود في الدول التي تطبق سياسة أسعار صرف ثابتة، مثل بلادنا، حيث سعر صرف الريال بالدولار ثابت على مدى أكثر من 30 عاما. وغالبا ما تكون تأثيراتها من خلال تكاليف التمويل الممنوح للمنشآت والأفراد.
محليا، اقترح البعض رفع قيمة الريال. الرفع يعمل على خفض التضخم المستورد، لكن له تأثيرات سلبية في قطاعات اقتصادية كثيرة، وخاصة على المدى البعيد، كما أن إيرادات الحكومة ستتأثر سلبا، لأن أهم سلعة تصديرية لدينا النفط، وهو مسعر ويباع بالدولار. والتفصيل في هذا يطيل المقال.
تشجيع المنافسة، ومحاربة الممارسات التجارية غير المشروعة، في أطر منع استخدام النفوذ لتعطيل قوة السوق، كما على الحكومات العمل على تصحيح التشوهات التي تصيب السوق من جراء الأحداث الأخيرة، وفق أنظمة وتنظيمات قوية.
تطوير أنظمة مواصلات عامة عالية الكفاءة يساعد على خفض التكلفة على الجميع من بائعين ومشترين، بغرض زيادة العرض العقاري، ينبغي التوسع في تضافر جهود القطاعين العام والخاص في بحث وتذليل عقبات الاستثمار العقاري، وتكلفة تملك السكن، وخاصة لذوي الدخل الأقل من المتوسط. وفي هذا يعمل على التوسع في سياسات وبرامج خفض تكلفة التملك السكني. لكن تدر هذه السياسات إلى طلب مزيد سكن ومزيد تمويل حكومي. وهذا بدوره يسهم في زيادة التضخم، أو على الأقل سيعاكس جهودا أخرى في خفضه حاليا وفي المستقبل القريب. أما على المدى البعيد، فإن التوسع، والتطوير في البرامج، وزيادة العرض من المساكن، تعمل على الحد من التضخم المستقبلي.
ماذا بشأن خفض الإنفاق الحكومي الجاري؟ له آثار معاكسة للتضخم. لكن له آثار معيشية واجتماعية قوية غير مرغوب بها، والأحسن للدول أن تعمل على ترشيد الإنفاق، وإصلاح إدارة المال العام. وهذا ما تركز عليه رؤية 2030.
ماذا بشأن خفض الإنفاق الحكومي الاستثماري؟ حدوث ذلك مستبعد، بل نرى العكس في بلادنا. لماذا؟ رغم أن هذا الخفض يساعد على محاربة التضخم في الأجل القصير، لكن له أضرار كبيرة على النمو الاقتصادي وعلى توسيع طاقة الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط في المدى البعيد. ولذا لا ينصح به.
نقلا عن الاقتصادية