إنهاء مزاحمة العمالة المواطنة على الوظائف

09/02/2022 0
عبد الحميد العمري

انتهى الحديث في خلاصة المقال السابق، بعنوان: "من المسؤول الأول عن حماية سوق العمل المحلية؟"، إلى أن منشآت القطاع الخاص تعد هي المسؤول الأول عن حماية الوظائف المتوافرة في سوق العمل المحلية، بدءا بإيجاد تلك الوظائف مرورا بإداراتها والتعامل معها وتعيين من تريد فيها، وصولا إلى إنهائها وشطبها. وبالنظر إلى مسيرة زمنية طويلة مضت، تخطى عمرها أكثر من أربعة عقود، سنجد أن ما بدأ بالاعتماد المؤقت على استقدام العمالة الوافدة من خارج الحدود لعدم توافر الموارد البشرية المواطنة، قد تحول عاما بعد عام طوال تلك الفترة الزمنية الطويلة إلى نمط آخر، يمكن وصفه بحالة من الإدمان الشديد من القطاع الخاص على العمالة الوافدة، في الوقت ذاته الذي أصبحت الموارد البشرية المواطنة متوافرة ومؤهلة تماما لشغل الوظائف في القطاع الخاص، على عكس ما كانت عليه الحال بداية السماح المؤقت بالاستقدام قبل أكثر من أربعة عقود.

يمكن وصف المشهد العام في سوق العمل المحلية خلال أكثر من عقد زمني مضى حتى تاريخه، بأنه المشهد الذي يمتلئ بأشكال واسعة جدا من مزاحمة العمالة الوافدة للعمالة المواطنة على الوظائف، وغالبا ما تكون الغلبة للشريحة الأولى على حساب الثانية، والمسؤول الأول عن هذه المزاحمة هم بعض أرباب منشآت القطاع الخاص، الذين لا تزال تفضيلاتهم عند المربع الأول من الاعتماد المؤقت في الأصل على خدمات العمالة من الخارج، في الوقت الذي لم يدرك أغلب أرباب المنشآت حجم التحولات الكبيرة جدا التي طرأت على الاقتصاد والمجتمع، وأي تأخير في الفهم والوعي اللازم من طرفهم بكل تلك التحولات، ستكون له آثار عكسية واسعة تتجاوز منشآتهم إلى مختلف الأبعاد الاقتصادية والمجتمعية الأخرى، ليس ارتفاع معدل البطالة إلا أحدها، مضافا إليه ارتفاع حجم التسرب المالي عبر الحوالات المالية للخارج، وتدني مستويات مساهمتهم في الناتج المحلي الإجمالي، وعدم قدرة تلك المنشآت على التوسع والابتكار ومواكبة رتم التحولات الاقتصادية المتسارعة، وعدم زيادة الاعتماد على قدرتها التنافسية، عوضا عن استمرار اعتمادها المفرط على الإنفاق الحكومي والعمالة الوافدة، وغير ذلك من التداعيات التي لم تكن لتوجد لولا تلك الفجوة الذهنية لدى أرباب المنشآت في القطاع الخاص.

يمثل مشروع إنهاء حالة مزاحمة الموارد البشرية المواطنة من قبل أي طرف آخر واحدا من أهم المشاريع التنموية الواجب أن تتبناها مجالس الغرف التجارية والصناعية، ثم منشآت القطاع الخاص، وتأتي المبادرة هذه المرة من تلك الكيانات لا من خارجها، وهو الأمر الذي يجب أن يتحول إلى مشاريع واسعة وممتدة عبر مجالس الإدارات التي تمر وستمر على تلك الكيانات، سواء الغرف التجارية والصناعية، أو منشآت القطاع الخاص بمختلف أحجامها، ولا بد أن يترجم من خلال مبادرات محددة المحاور والأجزاء، ويتحول إلى مراحل تنفيذية مقيدة بمواعيد زمنية، ويتم تقييم مخرجاتها دوريا وبصورة مستمرة، وكي تكتسب مزيدا من الالتزام العالي من قبل تلك المنشآت، لا بد أن تقترن بكل المزايا والاستحقاقات التي تسعى خلفها، عملا بمبدأ "أعط ما عليك لتحصل على ما تريد".

يجب أن يبدأ القطاع الخاص في اتباع أنماط من التفكير والإدارة تختلف تماما عما اعتاد عليه طوال نصف قرن من الزمن مضى، وأن يدرك الحجم الهائل لتطلعات رؤية المملكة 2030 تجاهه، التي تجتمع حول رفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي لأعلى من 60 في المائة قبل نهاية عام 2030، وهو الأمر الذي يقتضي لتحققه أن يخرج من عباءة الاعتماد المفرط على المناقصات الحكومية والعمالة الوافدة، وعلى أن يقوم غيره بالتفكير واتخاذ القرارات نيابة عنه، بما يفترض أنه أصبح مؤهلا أكثر مما مضى ليبادر ويتوسع في تلك الدائرة بكثير من الجرأة والاستقلالية والتنافسية بعيدا عن الاعتمادية المفرطة على الغير، وأن يضع في صلب منهجيته الأهمية القصوى لبحث كيفية مساهمته بأكبر قدر ممكن في دعم اقتصاده ومجتمعه اللذين ينتمي إليهما، وهو الأمر الممكن تحقيقه وإقرانه في الوقت ذاته بما يسعه المجال بالبحث عن العوائد التي تمكنه من الوقوف على قدميه، بل التوسع أكثر والخروج إلى الأسواق الإقليمية والعالمية بالقوة الكافية، وهو الأمر الذي لم ولن تتأخر عن دعمه وتحفيزه الدولة.

لا سبيل إلى محاصرة تلك المزاحمة في سوق العمل، والوصول بها إلى أدنى درجاتها، إلا بتغيير جذري في منهجية إدارة منشآت القطاع الخاص، ولا سبيل إلى هذا الهدف التنموي المهم إلا بتحقق أمرين رئيسين: الأول: التغيير الجذري لمنهجية تفكير أرباب تلك المنشآت وإدارتهم لها، الثاني: منح مزيد من التمكين للموارد البشرية المواطنة على مستوى الوظائف القيادية والتنفيذية في منشآتهم. ودون هذين المتطلبين الرئيسين ستبقى المزاحمة قوية ومتصاعدة.

نتطلع جميعا لانطلاق الشرارة الأولى لمشروع محاصرة تلك المزاحمة من مجالس الغرف التجارية والصناعية، وأن تتحول إلى ما يشبه الروح في عموم منشآت القطاع الخاص، وهي المنهجية المختلفة عن كل ما سبق من مبادرات وبرامج عملاقة اعتاد الجميع على انطلاقها من الأجهزة الحكومية، ويراد اليوم أن يشهد الاقتصاد الوطني والمجتمع مبادرة عملاقة تنطلق من أروقة القطاع الخاص، وأن يتولى بالكيانات الممثلة له إدارتها وتنفيذها، وترجمة مسؤولياته وواجباته تجاه اقتصاده ومجتمعه على أرض الواقع، على هيئة برامج ومشاريع عملية ذات جدوى ونتائج حقيقية وفعلية، يلمس الاقتصاد والمجتمع ثمارها بصورة فعلية، وبقيمة كبيرة ذات وزن مؤثر إيجابي، يمكن مشاهدته على انخفاض معدل البطالة بين المواطنين والمواطنات، وعلى كثير من مؤشرات الأداء الاقتصادي الكلي، فهل نرى هذه المبادرات قريبا؟

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية