كما أن سياسات البنوك المركزية الكبرى حول العالم، عبر خفضها المتتالي لأسعار الفائدة، واندفاعها غير المسبوق في اتجاه التيسير الكمي طوال العقد الماضي، وزاد بسرعة مضاعفة منذ اندلاع الجائحة العالمية لكوفيد - 19 لامتصاص صدمات توقف النشاطات وانقطاع طرق التجارة العالمية، أؤكد كما أن كل ذلك دفع بمختلف الأسواق إلى تسجيلها قفزات قياسية طوال تلك الفترة، ودفع أيضا إلى تسارع نمو التضخم بصورة لم يشهدها عديد من الاقتصادات الكبرى منذ أكثر من أربعة عقود، وفي الوقت ذاته لم تنعكس تلك السياسات الأكثر مرونة كما كان مأمولا على الاقتصادات بالنمو المستهدف، ولا على البطالة بالخفض الذي يلبي احتياجات الاقتصادات، بل قد تجدها اصطدمت أخيرا بتسارع نمو معدل التضخم، ودون إغفال استمرار حالة الصراع التجاري الكبير بين أكبر اقتصادين حول العالم الأمريكي والصيني.
أمام تلك التطورات التي اقترنت بمسار زيادة التسهيلات من البنوك المركزية، وما انعكست به من نتائج متباينة على أداء الاقتصادات والأسواق والتجارة الدولية، فلا شك أن تحولها إلى مسار عكسي متوقع وفقا للتصريحات المتكررة من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وغيره من البنوك المركزية الكبرى، سيترك آثارا في المجالات ذاتها اقتصاديا وسوقيا وتجاريا في مختلف أنحاء العالم، ورغم التردد الظاهر حتى تاريخه على عزم البنوك المركزية لخوض تلك الرحلة العكسية، إلا أن الضغوط التضخمية التي أصابت الاقتصادات تشير إلى أن التوجه قائم ولا ينتظر إلا بدء الخطوة الأولى، التي باتت الأسواق تترقبها بحذر شديد، وما التقلبات التي شهدتها الأسواق العالمية منذ مطلع العام الجاري إلا مؤشرات أولية لما سيأتي على الأسواق خلال الفترة المقبلة.
وفي الوقت الذي يتصاعد السؤال حول: هل ستجدي تلك السياسات العكسية المتوقعة للبنوك المركزية في الحد من التضخم؟ وما إذا كانت ستنعكس سلبا على نمو الاقتصاد العالمي؟ وما قد يترتب عليها من مسار صاعد آخر "محتمل" للبطالة عالميا؟ إضافة إلى الاضطراب الذي ما زال يطغى على التجارة الدولية بزعامة الصراع الأمريكي الصيني؟ كيف يمكن قراءة كل تلك المتغيرات المحتملة في الوقت ذاته الذي يشهد العالم تصاعد سخونة الصراعات العسكرية المحتملة في عديد من المواقع، كالصراع الروسي الأوكراني الآخذ في التصاعد يوما بعد يوم، والصراع الأمريكي الصيني المنطلق من أقصى الجانب الشرقي لآسيا، إضافة إلى عديد من حالات التوتر الداخلي في بعض البلدان في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.
ولا يقف الأمر عند حدود ما تقدم ذكره أعلاه، بل يمتد إلى الآثار المناخية القاسية الوقع والمفاجئة أحيانا في مختلف أنحاء العالم، وليس المقصود هنا هو رسم صورة قاتمة لما ينتظر العالم من تقلبات وتحديات ثقيلة الوزن، بقدر ما أنه ترقب واجب التفكير فيه وبما يحمله معه من تداعيات على مختلف المستويات، تتجاوز مجرد التفكير في مستقبل الاقتصادات والأسواق والتجارة العالمية، إلى الصورة العامة للعالم بكل ما يحمله المعنى من تفكير دؤوب، يسعى إلى المحافظة على الاستقرار الدولي والمكاسب المتحققة، وتكامل التنسيق الدولي لتجاوز المعضلات الراهنة والمحتملة عالميا وإقليما.
يظل استمرار الأوضاع الراهنة اقتصاديا وعلى مستوى مختلف الأسواق أقرب إلى الضبابية أكثر منها إلى الوضوح، وهو ما أكده صندوق النقد الدولي في تأجيله لإعلان توقعاته مطلع العام الجاري، انتظارا لما قد يؤكد نظرته المستقبلية في الأجلين القصير والمتوسط على وجه الخصوص، ولا يتجاوز تحول البنوك المركزية نحو عكس سياساتها المرنة السابقة إلا الوقت، وقد تأكد عدم قدرة الاقتصادات على تحمل التضخم الراهن أكثر مما مضى، وضرورة العمل على تحييد هذا التحدي الأكبر لأي اقتصاد قبل تفاقمه أكثر، وفي حال حدث كل ذلك في ظل احتمال انخماد شرارات الصراعات العسكرية المحتملة السالف ذكرها أعلاه، فقد يكون مسار الاقتصادات والأسواق وعرا بعض الشيء في بداية الطريق طوال عامين إلى ثلاثة أعوام مقبلة، وعلى أمل عودة المسار الصاعد للنمو الاقتصادي عالميا هو الهدف المنتظر والمأمول.
أما في حال تسارعت أحداث الصراعات العسكرية، وتحولت إلى واقع أمام أطرافه المباشرة، إضافة إلى الأطراف غير المباشرة، فلا شك أنه سيكون المتغير غير المرحب به في المسارات المحتملة كافة، سواء استمرت البنوك المركزية في سياساتها التيسيرية الراهنة، أو حتى مضت في تنفيذ عزمها بعكس تلك السياسات بالتزامن مع تلك الصراعات، وقد يجد الاقتصاد العالمي نفسه أمام نقاط تاريخية للتحول الاستراتيجي طويل الأجل، الذي ينبئ بتغيرات جذرية على وجه الاقتصاد العالمي طوال العقود المقبلة، والبدء من جديد في البحث عن مراكز قوى جديدة، قد تصعد معها دول إلى القمة، وأخرى تنحدر إلى أدنى مما هي عليه اليوم، في تكرار لما نتج عنه أكبر صراعين عالميين حدثا خلال القرن الماضي، أظهرا خلالهما صورة مختلفة تماما للعالم قبل وبعد حدوثهما.
هنا يأتي الجهد الأكبر تحديا على مختلف الدول، في إطار بحثها عن المركز المناسب لها وسط هذه التحولات العالمية الجذرية، والقائم على عديد من المرتكزات والمقدرات التي تمتلكها كل دولة واقتصاد، وقد تكون دول منطقة الشرق الأوسط وتحديدا دول الخليج العربي، الأكثر حرصا على الخروج من دائرة هذه التحولات بأكبر المكاسب الممكنة، خاصة لدى الدول التي بدأت عمليات إصلاح جذرية لاقتصاداتها، وقامت برسم خريطة طريق طويلة الأجل، في مقدمة تلك الدول المملكة بالاعتماد على رؤيتها الاستراتيجية 2030، التي تستهدف الوصول من خلالها إلى موقع أكثر ريادة على المستويين الإقليمي والدولي، وأنها من أكثر الدول استعدادا لأي تقلبات أو تغيرات جذرية، وكل ذلك بالتأكيد في علم الله، إنما المأمول بمشيئته تعالى أن تحمل أية متغيرات عالميا وإقليما معها إيجابيات أكبر من السلبيات لاقتصادنا الوطني تحديدا، ولاقتصادات منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط بصورة عامة.
نقلا عن الاقتصادية