الفتنة أمر يحصل لاختبار رد الفعل فيما نحب وما لا نحب. وعلى رأس ما نحب الأولاد والأموال. يقول سبحانه "واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة". والدول والمجتمعات عرضة للاختبار كالأفراد. ولعل المركب الإضافي "فتنة أو بلاء الموارد" يعطي ترجمة أنسب للكلمتين resource curse، وهما مصطلح انتشر في أدبيات اقتصاد الموارد للتعبير عن ضعف تقدير قيمة الموارد الطبيعية، ما يؤدي إلى سوء استخدامها و/أو إنفاق الأموال المحققة منها. ولا شك أن تلك الموارد من نعم الله سبحانه. وهو سبحانه يبتلي الناس أيهم أحسن عملا، والبعض أرشد من البعض في الاستفادة من الموارد الطبيعية.
تبنى الحكمة التقليدية فيما يخص دور الموارد الطبيعية، في كونها تمنح فرصة ذهبية، في تحقيق نمو وازدهار اقتصادي من بعد ضعف وفقر. وتبعا لهذه الحكمة يرى أو يفترض أن تركز الأموال على الاستثمار وتطوير الموارد البشرية، وتوسيع السعة الإنتاجية المحلية، وليس الاستهلاك السريع خاصة المعتمد على الاستيراد.
ومع سير عمليات التنمية واكتساب شعوب دول الموارد الطبيعية مزيدا من المهارات ينبغي أن توظف هذه التطورات والمهارات لسد عجز الموارد مستقبلا. وهذا ما نراه حاليا في بلادنا عبر الرؤية التي قامت على حسن الاستفادة مما رزقنا الله من موارد طبيعية.
البيانات الإحصائية والشواهد المرئية في أغلب الدول دلت على أن الاستفادة من الموارد كانت أقل مما ينبغي. ويظن أن المشكلة ترجع إلى أن الأموال التي تجلبها الموارد تأتي بسهولة، ما يضعف من الحكمة والاهتمام بقوة جودة الاستفادة من تلك الموارد. حسب المثل القائل easy come easy go "ما يأتي بسهولة يذهب بسهولة".
الاقتصاد القائم على تلك الحالة يوصف بأنه ريعي. وهذه الحالة تصنع آثارا جانبية كانخفاض قيمة العمل والجدية وانتشار الفساد الوظيفي. وقد جاءت نصوص شرعية تعضد هذا المعنى.
أخرج البخاري - رحمه الله - بسنده عن عمرو بن عوف المزني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما انصرف تعرضوا له فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم، ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء؟ قالوا: أجل يا رسول الله.
قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم.
حين ترتفع الدخول دون تعب ملموس، فإنها توجه إلى رفع المستويات الاستهلاكية، لا الإنتاجية. وهذا يصنع حالة ما يسمى فائض الطلب، أي: إن الطلب تجاوز حدود القدرات الإنتاجية في الاقتصاد. وينشأ من فائض الطلب زيادة الأسعار النسبية للسلع غير القابلة للتداول في التجارة الدولية مقارنة بأسعار السلع القابلة لأن تستورد، وهذا قد يرفع أسعار الصرف الحقيقية. وزيادة تلك الأسعار النسبية يصحبه عادة ارتفاع معدلات الربح فيها، وهذا عامل رئيس في دفع المستثمرين إلى استثمار أموالهم فيها أكثر من استثمارها في إنتاج السلع.
لكن لماذا ترتفع أسعار الخدمات؟ أو بعبارة أعم أسعار ما يصعب استيراده مقارنة بأسعار السلع السهل استيرادها، سواء استوردت أو لم تستورد؟ السبب راجع إلى كون أسعار هذه السلع الأخيرة مقيدة بالأسعار العالمية، ومن ثم فعنصر المنافسة فيها أقوى من عنصر المنافسة على غير المستوردات على المدى الطويل خاصة.
لكن، كما سبق، ذلك النوع من ارتفاع الدخول هو بطبيعته طفرة وقتية. بعدها يصبح لزاما على الحكومات اللجوء إلى تقشف. لكن من الصعب حمل الناس على خفض أو القبول بخفض قوي في دخولهم واستهلاكهم. فالإنسان خلق هلوعا. في هذه الحالة، ربما كان الحل الأكثر سهولة أن تبدأ الحكومات بالتركيز على خفض الإنفاق غير الاستهلاكي. لكن النتيجة ابتلاع الإنفاق الجاري الاستهلاكي معظم موارد المالية العامة، وتبدأ ظروف المعيشة لعامة السكان في الانخفاض، مع تزايد السكان وتقدم عمر المرافق والمنشآت القائمة. نسأل الله التوفيق لما فيه خير العباد والبلاد.
نقلا عن الاقتصادية