أذكر وأنا طالب في الابتدائي أنني كلما نظرت في خريطة المملكة أصابتني الدهشة من (الربع الخالي) بهذا الاسم وتلك المساحة الشاسعة.
وقد تابعت الرحلة العلمية التي ذهبت للربع الخالي - وصاحبتهم فيها جريدة «الرياض» - بما أصابني بدهشة تضاهي دهشة الطفولة لما وجدوه في (الربع الخالي) من بشر يتكلمون لغة لا يفهمها أحد! .. ومن مياه ونوافير ومناظر طبيعية ساحرة في بعض أنحائه الهائلة.. ناهيك عمّا يختزنه جوفه من ثروات ومعادن.. ولا يزال الوجدان يجد حنيناً لأسماء مواضع كالصمان والدهناء وثهلان والريان والتوباد، ناهيك طبعاً عن جبل النور وجبل أحد وجبل رضوى بمكة المكرمة والمدينة المنورة.. وعن مواضع ومواقع كثيرة في بلادنا التي تشبه القارة، لها في الوجدان الإسلامي والعربي من مكان عظيم وحنين أصيل..
الذي أريد قوله أننا في حاجة إلى (سياحة الصحراء) أو ما يسمى (سفاري) بشكل منظم أقترح أن تقوم به المكاتب السياحية في المملكة بالتعاون مع الهيئة العامة للسياحة التي تبذل جهوداً مشكورة لتنشيط السياحة الداخلية والخارجية، وأود من الأستاذ (طلال المهيدب) رئيس مجلس إدارة الصرح للسياحة والسفر وأمثاله تبني فكرة (سياحة الصحراء) في مناطق المملكة الشاسعة والمثيرة حقاً، وخاصة الأماكن والجبال المشهورة التي كان للتاريخ فيها كلام، وكان للشعر فيها صولات، فإنها مما تصبو النفوس لزيارتها والإقامة فيها ولو يوماً، ولو نظمت رحلات صحراوية بالشروط السياحية الراقية فإنني أتوقع أن يكون عليها إقبال منقطع النظير، من السعوديين وغيرهم، ونحن السعوديين خاصة كان أحلى ما لدينا (طلعات البر) ولا تزال في الواقع من أحلى الذكريات ومن أفضل وسائل الترفيه المتاحة حالياً، فوق ما فيها من صحة ونشاط لنقاء البيئة وجمال الصحراء وشموخ الجبال، ولكن الزمن تغير والترف ساد فلا بد من تنظيم تلك الرحلات من مكاتب متخصصة توفر للسائحين كل الإمكانات المطلوبة، بما في ذلك مرشدون يعرفون المناطق والمواضع جيداً.
إن الحديث عن سياحة الصحراء يحتاج إلى مقال أو أكثر، ولكنني الآن أتذكر بعض الجبال الموجودة في المملكة والتي لمسمياتها وتاريخها أصداء طيبة في الوجدان، ومنها على ما يحضرني في هذه العجالة وإلا فهي كثيرة جداً:
(جبل النور بمكة المكرمة)
وفيه غار حراء الذي تعبَّد فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت أول سورة من القرآن فيه، وهي سورة اقرأ..
(جبل أحد)
بالمدينة المنورة وهو الذي وقعت فيه موقعة أحد المشهورة وسميت باسمه، وكان رسول الله صلى عليه وسلم يقول: «أُحد جبلٌ يحبنا ونُحبه» فانظر بعض آماد إنسانية الرسول الكريم ومودته للأحياء والأشياء.. وكان عليه السلام يسير مع صاحبه أبي ذر رضي الله عنه عندما لاح لهما جبل أحد فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، ما يسرني أن يكون لي مثل أحد ذهباً إلا أن أقول به هكذا وهكذا.. يشير بيديه الكريمتين.. أي أعطيه للمسلمين.. وكان يقول: «وفي كلِّ كبدِ رطبة أجر».
(جبل التوباد)
ويقع بقرب مدينة الأفلاج وهو الذي شهد حب قيس وليلى، أشهر قصة حب في الأدب العربي وربما العالمي، فقد عشق قيس ليلى وهما صغيران يرعيان الغنم بسهل جبل التوباد وظله قال:
تعشقتُ ليلى وهي غرُّ صغيرةٌ
ولم يَبْدُ للأترابِ من ثديها حَجْمُ
صغيرين نرعى البَهْمَ ياليتَ أننا
إلى اليومِ لم نكبُرْ ولم تكبرِ البَهّمُ
وبعد أن زوجت ليلى غيره لأنه تغزل بها، وأصابه المرض، هاجر به أبوه وغربه كثيراً لعله يسلى ويسلو فلم يزده ذلك إلا عشقاً لليلى وتعلُّقاً بها وشوقاً للعودة إلى ديارها ومرابعها، فلما رأى أبوه أنه يذبل وينحل ويكاد يُجَنّ عاد به إلى مرابع الحبيبة فلم يكد قيس يرى جبل التوباد حيث تنتفض الذكريات حيّة حتى بكى وقال - وقد رحلت ليلاه -:
وأجهشتُ للتوباد حينَ رأيتُهُ
وكبَّر للرحمنِ حين رآني
وأذريتُ دمع العينِ لمَّا عرفتُه
ونادى بأعلى صوتِهِ فدعاني
فقلتُ له: لقد حولَكَ جيرةٌ
وعهدي بذاك الصرم منذُ زمانِ
فقال:مضوا واستودعوني بلادهُمُ
ومنِ الذي يبقى على الحدثانِ؟
وإنِّي لأبكي اليومَ من حَذَري غداً
فراقك والحيَّانِ مجتمعانِ
سِجالاً وتَهتَاناً وَوَبْلاً ودِيمةً
وسَحّاً وتَسْجَاماً إلى هَمَلانِ
وفي البيت الأخير جاء قيس بأنواع المطر عند العرب تقريباً ولعله بكى بأنواع الدمع: دمع الفرح، ودمع الحزن، ودمع القهر، ودمع الندم.. إلى آخره..
وقد استوحى أحمد شوقي قصة قيس في مسرحية شعرية، وغنى له عبدالوهاب مقطوعة رائعة جداً توهَّج فيها الشعر الجميل توهُج البريق في الألماسة، وتقمص فيها شوقي مشاعر قيس ومواقفه، فوصف على لسانه ذكرياته حول التوباد وفي سهوله حين كان يلعب مع ليلى ويبنيان بيوت الأولاد ويبنيان الحب، ولا أذكر من هذه القصيدة الجميلة الآن إلا بعض الأبيات وقد كانت عندي كاملة وشريط عبدالوهاب كنت أردده حيث أُحَلِّق مع الفنّ الراقي المتكامل الأركان، ولكنه ضاع ولم أجد مثله في السوق حتى الآن فيالجمالٍ فيه وإذا شاء الله فسوف أحصل عليه لأنه تحفة فنية:
كم بنينا من حصاها أرْبُعا
وانثنينا فمحونا الأَرْبُعا
وخَطَطَنا في نقى الرمل فلم
تحفظِ الريحُ ولا الرملُ وعى
قد يهون العمر إلا ساعة
وتهونُ الأرض إلا موضعا
(أجا وسلمى)
وهما جبلا طي المشهوران، موطن حاتم الطائي الذي كان في قامة جبل أشم، يقول الشاعر:
أحبُّ بلاد الله ما بين مَنْعج
إليَّ وسلمى أن يصوبَ سحائبُها
بلادٌ بها نيطت عليّ تمائمي
وأول أرض مَسْ جلدي تُرابُها
وأرض (نجد) بشكل عام أحبها شعراء العرب في كل قطر ومصر وفي كل زمان، وممن لم يروها قط، وكانت لهم رمزاً للحب والشعر، وقد جُمع حول هذا مجلدات.
(رضوى)
وهو جبل بالمدينة.. قال أبو الطيب المتنبي يرثي محمد بن إسحاق التنوخي الذي مات بالمدينة المنورة:
ما كنتُ أحسبُ قبل دفنِكَ في الثرى
أن الكواكبَ في الترابِ تغورُ
ما كنتُ آمل قبل نعشك أن أرى
رَضْوى على أيدي الرجال يسيرُ
وتشبيه الرجل المرثي - إذا كان كبير القدر - بالجبل بليغ، يقول ابن المعتز في رثاء «المعتصم»:
قد ذهب الناسُ ومات الكمالْ
وصاح صرف الدهر أين الرجال؟
هذا أبو العباس في نَعْشِهِ
قوموا انظروا كيف تسيرُ الجبال
(طويق أو اليمامة)
سلسلة جبال طويق هي جبال اليمامة.. وهي سلسلة عظيمة طويلة لا يوجد أطول منها في الجزيرة إلا سلسلة جبال السروات..
والقادم إلى اليمامة يرى سلاسل جبالها الشم شامخات ولها رؤوس مشرعة في الفضاء، قال عمرو بن كلثوم حين أقبل على اليمامة:
وأعرضت اليمامة واشمخرتْ
كأسيافٍ بأيدي مصلتينا
فقد أعطتها هذه الجبال الشامخات عزاَّ ومنعة بإذن الله، حتى كأن خشومها سيوفاً مرفوعة مصلتة، وعلماء الأجناس يقررون أن الأرض ذات الجبال العالية أهلها أشد بأساً وشجاعة..
وذكر الشيخ عبدالله بن خميس أنه عاد من دراسته بالطائف وهو تلميذ آنذاك، مشوقاً إلى بلده اليمامة.. قال:
«وفي طريقي إليها بدا لي طودها الأشم - طويق - من بُعْد، فقلت من قصيدة:
يا جاثماً بالكبرياءِ تسربلا
هلاّ ابتغيت مدى الزمانِ تحوُّلا؟
شابَ الغرابُ وأنتَ جَلْدٌ يافِع
ما ضعضعتْ منك الحوادثُ كاهِلا
ترنو إلى الأجيال حولك لا تني
تترى على مَرِّ العصورِ تداولا
يا أيها العملاقُ زدنا خبرةً
عمّن أقاموا في ذُرَاكَ معاقِلا
(جبل ثهْلاَن)
وثهلان جبل ضخم بقرب (الشَّعَراء) قال عنه ياقوت (وثهلان جبل ضخم بالعالية (أي عالية نجد) طوله في الأرض مسيرة ليلتين!!).
وقد ورد فيه وفي مائه المشهور وهو يتحدر منه عذباً زلالاً حيث يربع القوم ويطيب الجو والحب.. أشعار لا تحصى منذ امرئ القيس إلى اليوم، كقول الفرزدق يفخر:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمهُ أعزُّ وأطولُ
بيتٌ زرارةُ مُحْتَب بفنائِهِ
ومجاشع وأبو الفوارسِ نَهْشَلُ
فادفع بكفك إن أردت بناءها
ثهلانَ ذا الهضبات هل يتحلحلُ؟
وضرب به المثل أبو البقاء الرندي في بكائه على الفردوس المفقود حين أخرج العرب من الأندلس:
دهي الجزيرة أمرٌ لا عزاءَ لهُ
هوى له أُحُدٌ وانهدَّ ثَهْلاَنُ
ويقول امرؤ القيس مشبهاً جواده العربي بظبي لاح له عقابٌ يهم بالهجوم عليه وهو في رأس ثهلان:
على هيكلٍ يُعطيك قبل سؤالِهِ
أفانينَ جَرْيٍ غيرَ كزِّ ولا واني
كتيسِ الظباءِ الأعفرِ انفرجتْ لهُ
عقابٌ تدلَّتْ من شماريخِ ثْهلاَن
ومن الشعر الوجداني قول القبيصي:
أيا جارتنا من نميرِ بنِ عامرٍ
أجِدَا البكا إنَّ التفرُّقَ باكِرُ
فما دونَ شعب الحي أن يتفَّرقُوا
بثهلانَ إلاّ أن تُردَّ الأَباعر
(جبال أعرفها بالقصب)
وفي ديرتي القصب عدد من الجبال التي تثير الوجدان الفريدة.. والفهدة.. والشفيعي.. الأول على اسم انثى الفهد وفيه غار مظلم قيل إن فهدة شرسة كانت تسكنه قديماً، والفريدة جبل منفرد وحده بين القصب والحريق، والشفيعي شمال القصب جزء من طويق شامخ له ظل ظليل ويتحدر منه ماءٌ عذب، ولا أجمل من (الكشتة) في ظلاله والشرب من مائه، وكنا في طريق القصب القديم نمر بمرات وجبلها الأحمر المشهور «الكميت».
(جبل الريان وذكريات الشيطان)!
وجبل الريان بقرب الجبل الضخم ثهلان، وحولهما ربيع ومياه تتحدر من أعالي تلك الجبال، وحياة وأنس، وهو الذي قال فيه جرير:
يا حبَّذا جبلَ الريانِ من جبلٍ
وحبذا ساكنُ الريانِ من كانا
وحبَّذا نَفَحاتٍ من يمانيةٍ
تأتيك مِن قِبَلِ الريَّانِ أحيانا
حيِّ المنازل إذ لا نبتغي بدلاً
بالدارِ داراً ولا الجيرانِ جيرانا
يا أُمَّ عمرٍو جزاكِ الله مغفرةً
رُدِّي عليَّ فؤادي مثلما كانا
ألستِ أحسنَ مَنْ يمشي على قَدَمٍ
يا أملحَ الناسِ كُلَّ الناسِ إنسانا؟
لا باركَ اللهُ في الدنيا إذا انقطعتْ
أسبابُ دنياكِ من أسبابِ دنيانا
كيف التلاقي ولا بالقيظِ محضركم
منا قريبا ولا مَبْدَاكِ مبدانا
إنَّ العيون التي في طرفها حَوَرٌ
قتلننا ثُمَّ لم يحيينَ قتلانا
يصرعنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حراكَ بِهِ
وهُنَّ أضعفُ خَلْقِ الله إنسانا
لقد كتمتُ الهوى حتى تهيَّمني
لا أستطيع لهذا الحُبِّ كتمانا
هل يَرْجعنَّ - وليس الدهر مرتجعاً -
عيشٌ بها طالما احلولى وما لانا؟
أزمانَ يدعونني الشيطانَ مِن غَزَلي
وكُنَّ يهوَينني إذ كنتُ شيطانا!
نقلا عن الرياض