تعد الإصابة بميكروب لا تقتله المضادات الحيوية تحديا للقطاع الطبي وتهديدا حقيقيا للمصاب، وقد ارتأت منظمة الصحة العالمية أن تحيي- في مثل هذه الأيام من كل عام أسبوعا عالميا لتوعية الأفراد والاسرة بالميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية و تنبيههم بدورهم الممكن في تأخير نشوء سلالات ميكروبيه ممرضة مقاومة للمضادات الحيوية، حيث يعد جسم الانسان موضعا لتعرض الميكروبات للمضادات الحيوية وبالتالي ثمة فرصة لإكثار ونشر الميكروبات المقاومة التي ستصمد أمام المضاد وستتاح له فرصة أكبر للتكاثر حين يموت أقرانها غير المقاومين فيتاح بذلك للمقاومة الانفراد بالبيئات وأجسام البشر، كما يمكن للميكروب غير المقاوم أن يتغير ويصبح ممرضا ضاريا ومقاوما في ظروف لا يتسع المقام للتفصيل فيها منها الاستخدام الخاطئ للمضاد الحيوي والتي تشير لها المنظمة ووزارات الصحة عادة في الحملات التوعوية.
والجدير بالذكر أن ثمة موضع يمتاز بفرص تعرض أكبر للميكروب بالمضاد الحيوي تفوق بكثير في عدد مراتها ما تحتمله جغرافيا الجسم البشري، وأعني منشآت التربية المكثفة للمواشي والطيور والاسماك، حيث توظف المضادات الحيوية لحماية صحة الحيوان في ظروف التنمية الكثيفة وكذلك في رفع كفاءة عملية التغذي لديه أو تعزيز النمو وبالتالي ضمان توفير الكافي من الغذاء للإنسان، ولكن تعد الممارسات الخاطئة في استخدام المضادات في منشآت تربية الحيوان مسببا كذلك لتسريع ظهور السلالات المقاومة للمضادات.
و لو اخترنا الدواجن كنموذج، فإنه يمكن العمل على تخفيض استخدام المضادات الحيوية في منشآت التربية الكثيفة لها من خلال تظافر ممارسات تشغيلية عدة من شأنها رفع كفاءة تغذية الدواجن وتعزيز مناعتها كأسلوب التربية، ونوعية الغذاء، ونوعية المضافات للغذاء من المكونات غير المغذية، والتطعيمات، ولا ننس التقنيات الوراثية وانتخاب السلالات المناسبة ، وثمة تطبيقات يطول بها المقام ذات علاقة بإمكانية التدخل في تنوع وأعداد الأنواع البكتيرية المستوطنة لأمعاء الدجاج بهدف الحد من وفرة البكتيريا الممرضة في براز الدجاج، حيث يمكن أن يتلوث لحم لدجاج بعد الذبح في برك المياه الدافئة التي تستخدم لتسهيل نتف الريش بالبكتيريا المنقولة ببراز الدجاج العالق في الريش أو الذي يخرج خلال الذبح، ولا يمكن رفع درجة الحرارة بالقدر الذي يقتل البكتيريا حماية للمنتج من التغيرات غير المرغوبة في جلد الدجاج المذبوح .
ولو سلطنا الضوء على أحد التجارب الناجحة نسبيا كالتجربة البريطانية، فإن مجلس الدواجن البريطاني صرح بأن الوصول للاستخدام الصفري للمضادات أمر غير مستدام، وأن مجهودهم على مدي العشر سنوات الماضية أثمر عن خفض كمية المضادات الحيوية المستخدمة في تربية الدواجن بما نسبته ٧٤٪ حتي أصبح لا يستهلك بالبلاد أكثر من ٢٠ طن فقط لمزارع الدجاج والبط والديك الرومي، وأن لجوء المزارع لاستخدام المضادات المصنفة طبيا بأنها حرجة ومهمة للإنسان انخفض بنسبة ٩٦٪، ويبدوا لي من تصفح موقع المجلس البريطاني للدواجن وتقارير وكالة المضادات الحيوية لديهم أن النتيجة التي وصل لها البريطانيون بعد عشر سنوات من الجهد ناتجة عن تجاوز منظومتهم الرقابية للعقيدة المبنية على مجرد "التقييس و المطابقة" للمنتجات والتي لا تثمر عادة عن أكثر من فسح المنتج المطابق للمواصفات ومنع غير المطابق، حيث يتضح أنهم يتبنون العقيدة الرقابية التكاملية الوقائية المبنية على المسئولية المشتركة، والشراكة في إدارة الأزمة، والاتصال الشفاف، المفضية في النهاية إلى اتاحة خبرات ممارسات التشغيل الجيدة للجميع بشكل منهجي تشرف عليه عناصر المنظومة الرقابية، والذي أثمر في الأخير خفضا معتبرا في استخدام المضادات الحيوية دون تأثر على حجم الإنتاج .
ومن بدائل المضادات الحيوية المقترحة قديما، استخدام الفيروسات المتخصصة في قتل البكتيريا وتسمى الفاج، وهي فيروسات لا يمكنها أن تهاجم خلايا الانسان أو الحيوان أو النبات، حيث يمكن استخدام الفاج لمهاجمة بكتيريا السالمونيللا والكمبيلوبكتر في الدجاج المذبوح قبل تغليفه أو لتطهير برك تربية الأسماك من الممرضات البكتيرية وعلاج الإصابات البكتيرية للماشية، والاستثمار في الفاج لعلاج البشر شائع في كثير من الدول كروسيا وجورجيا والصين والهند ودول أمريكا الجنوبية وبولندا وغيرهم ، هذا وقد أفصحت الجامعة العبرية عن امتلاكها بنكا للفاج يحوي أكثر من ٣٠٠ فاج موجهة لقتل ١٦ نوع بكتيري ، ومؤخرا بدا أن منظمة الصحة العالمية و تحت ضغط البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية آخذه بالانفتاح على هذا النوع من البدائل حيث طلبت بيانات بخصوص هذا النوع من التطبيقات من مستخدميها في سياق التصدي للبكتيريا المقاومة.
كما يتضح من متابعة مخرجات مؤتمرات "مستقبل الفاج" السنوية و قراءة نماذج الاستثمار الغربي في الفاج تقدما في قبول هذا النوع من التطبيقات في أوروبا الغربية، فمثلا تنتج شركة STIM البريطانية من مصنعها بمدينة جلاسجو فاج متخصص بقتل بكتيريا اليرسينيا تصدره لمنشآت الاستزراع العذبة لسمك السلمون في النرويج ولا تستخدمه في الداخل، حيث تواجه المزارع السمكية مشكلة اختباء هذه البكتيريا ضمن مجتمع البكتيريا الخليط النامي في مرشحات وحدة تنقية مياه المزرعة وقد تمكن الفاج من الفتك بهذه البكتيريا في تلك المخابئ، كما لم يقف الألمان بانتظار قبول هذه التقنية بل أنتجوا الفاج المستخدم في التطبيقات الزراعية وتربية الأحياء المائية وسلامة الغذاء في بلجيكا من خلال شركة PTC ، والجدير بالذكر بأن منتجات الفاج قد استقرت على رفوف صيدلية مستشفى الملكة آستريد العسكري ببروكسل منذ خمسة عشر عاما لتستخدم في علاج البشر، أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد أجيز استخدام الفاج للاستشفاء في الحالات التي لا تجدي معها المضادات نفعا ويكون فيها المريض مهددا بشكل كبير، وثمة تجارب أمريكية ناجحة استخدم فيها الفاج في انقاذ مرضى على شفير الموت في وحدات العناية المركزة.
أعتقد أن استمرار تقدم البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية في المعركة سيقود الى قبول مزاحمة منتجات الفاج لمنتجات المضادات الحيوية في سوق العلاج، ولن تكون التحديات ذات العلاقة بالدراسات الاكلينيكية والسريرية وطريقة حساب الجرعة وتكرار مرات العلاج واحتمال نشوء مناعة لدى البشر مضادة للفاج عائقا أمام التوسع في التجارب والاستثمار فيها، ومن أمثلة تلك الاستثمارات المشروع الأمريكي الإسرائيلي المشترك في شركة Biomx والتي تتبنى منهجا مميزا يعتمد على هندسة الفاج لزيادة فعاليته وتنويع تطبيقات استخدامه.
أرى أنه من المناسب أن نبدأ الاستثمار في هذا المجال حتى قبل أن نقر استخدامه كما هو الحال في النموذجين الألماني والبريطاني الموضح انفا، وأرى أن ذلك مقبولا في إطار مشاريع المكافحة الحيوية التي تتبناها وزارة البيئة والمياه والزراعة، أو في سياق المجهود البحثي الطبي لدى المؤسسة الصحية محاكاة للمنهج الأمريكي والبلجيكي، ولا أرى المراهنة على مبدأ الاستيراد من الخارج حال إقرار هذا النوع من التقنيات ليس لأسباب تتعلق بنواحي الأمن الحيوي.... بل لسهولة ولوج هذه التقنية بأيد سعودية دون كلفة عالية، ولكون هذه التقنية أداة هامة لما سيتبعها من تطبيقات مهمة ذات علاقة بعلوم الأورام والتشخيص والعلاج الجيني، فتعزيز خط الدفاع المعرفي الوطني لن تقل أهميته في قادم الأيام عن التصدي للبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية.
خاص_الفابيتا