بالرغم من مخاوف عدم قدرة الحكومة الأمريكية على الاستمرار في الاقتراض، إلا أن أسواق الأسهم الأمريكية تبدو متماسكة بشكل كبير، ولا يزال مؤشر داو جونز يسجل قيما بحدود 34 ألف نقطة، وقد أنهى 2020 عند 30,600 نقطة، ومستواه الحالي تقريبا ضعف مستواه قبل خمسة أعوام. كذلك بالنظر إلى السندات الحكومية الأمريكية، لا تزال عوائدها متدنية إلى حد كبير، حيث تصل الفائدة على سندات عشرة أعوام نحو 1.5 في المائة. ما الذي يحدث في أمريكا؟ وهل على المستثمرين الخوف من تعثر الحكومة الأمريكية هذا الشهر؟
كما هو معروف هذه ليست المرة الأولى التي تصل فيها الحكومة الأمريكية إلى سقف الاقتراض، فقد تم رفعه أكثر من 70 مرة منذ عام 1962، إلى أن تم تعليق العمل بآلية رفع السقف في 2019 ليتم تجاوزه باستخدام صلاحيات وزير الخزانة، ولكن هذه الصلاحية ستنتهي هذا الشهر. وقد كان الدين العام للحكومة الأمريكية نحو تريليوني دولار في 1990، وكان وقتها يشكل 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، لكنه استمر في الارتفاع التدريجي إلى أن بلغ أكثر من 20 تريليون دولار بنهاية عام 2020 وتجاوز 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الآن يقارب مستوى السقف البالغ 28.4 تريليون دولار.
الحكومة الأمريكية تقترض باستمرار وقد ازدادت حدة الاقتراض بسبب تداعيات فيروس كورونا منذ مارس 2020 على يد الرئيس الجمهوري ترمب، وها هو الرئيس الديمقراطي بايدن يتوسع كذلك في البرامج الاقتصادية وبرامج الدعم المختلفة، ليضيف نحو تريليوني دولار منذ توليه الرئاسة. وبالرغم من الجدل الحاد بين الحزبين والمناكفات السياسية، إلا أن الحقيقة أن جميع الرؤساء الأمريكيين السابقين كانوا يقترضون بكثرة، والسبب هو أن مشكلة الدين الأمريكي ليست مرتبطة بأي من الحزبين، إنها طبيعة الاقتصاد الأمريكي. ومع ذلك، فالديمقراطيون بشكل عام يؤمنون بالنظرية الاقتصادية الكينزية التي ترى أن على الحكومة لعب دور كبير في دعم البلاد بالتدخل المباشر لتوجيه دفة الاقتصاد عند الحاجة، إلى جانب إيمانهم بأهمية الرعاية الحكومية المجانية لشرائح كثيرة من المجتمع.
تقترض الحكومة الأمريكية لأن مصروفاتها أكثر من إيراداتها، فهناك عجز سنوي في الميزانية الحكومية، وهو الأمر الحاصل بشكل متواصل طيلة الـ20 عاما الماضية، حيث كان آخر فائض في الميزانية عام 2001. كما أن حجم العجز في الميزانية السنوية عادة لا يتجاوز تريليون دولار، غير أنه تجاوز ثلاثة تريليونات دولار في 2020 بسبب كورونا، وإلى هذا الشهر من 2021 يبلغ العجز الحكومي نحو 2.5 تريليون دولار. لذا فلا يوجد حل لدى الحكومة الأمريكية إلا مواصلة الاقتراض، كون الخيارات الأخرى محدودة الفاعلية، كزيادة الضرائب أو تقليص المصروفات.
التخويف من خطورة عدم الاقتراض يأتي من كل جانب، فوزيرة الخزانة تقول إن ذلك سيؤثر في 30 مليون عائلة ممن يتحصلون على دعم مالي لأطفالهم، ولن يتحصل نحو 50 مليون متقاعد على معاشات التقاعد، وسترتفع البطالة، وما إلى ذلك من مخاطر كبيرة، ومقصدها هنا التأكيد على الحاجة إلى الحصول على موافقة الكونجرس على زيادة الاقتراض.
المخاطر الحقيقية المرتبطة بعدم تمويل الحكومة هي بالطبع ستكون في الأسواق المالية، وبالذات على تلك الدول التي تستثمر في السندات الحكومية الأمريكية. لذا فلو كانت مخاطر تعثر الحكومة الأمريكية عالية وذات مصداقية كبيرة لرأينا ملامحها في الأسواق المالية، هذا بالرغم من تخويف البعض، كرئيس بنك جي بي مورجان الذي صرح بأنهم يتدارسون سيناريوهات مختلفة لتأثير تراجع التقييم الائتماني للحكومة الأمريكية، ومدى تأثيره في مختلف الأصول والتزامات لدى أطراف متعددة. تجدر الإشارة إلى أن المملكة في المركز الـ15 من بين الدول المستثمرة في السندات الأمريكية.
اليابان لديها سندات أمريكية بمقدار عشرة أضعاف حجم سندات المملكة في أمريكا، والصين تتجاوز استثماراتها تريليون دولار، ومن ثم هناك المملكة المتحدة وإيرلندا ولكسمبورج وغيرها ممن لديهم استثمارات كبيرة. لذا فهناك دول كبيرة وبارزة لديها مصالح في الولايات المتحدة، ولو حصل بالفعل أي تغيرات سلبية في جودة المستور الائتماني الأمريكي فستكون العواقب قاسية على تلك الدول. المخاطرة على هذه الدول تأتي بسبب احتمال انخفاض أسعار السندات حين يقوم المتداولون ببيع السندات الحكومية خوفا من التعثر في السداد، وبالتالي فإن هذه الدول لن تقوم ببيع ما لديها من سندات، كون ذلك سيؤدي إلى مزيد من الهبوط في الأسعار، وستجد تلك الدول التي لديها سندات حكومية أمريكية أن لا خيار أمامها إلا الاستمرار في الاحتفاظ بسنداتها، وهذا ما يفسر سبب تماسك أسعار السندات الأمريكية.
وبالرغم من أهمية الدول الأجنبية في تمويل الحكومة الأمريكية، إلا أن معظم اقتراض الحكومة الأمريكية ليس من الخارج بل من الداخل، فالاقتراض بشكل عام يأتي أقل من 30 في المائة من الخارج، ونحو 70 في المائة من الداخل، من صناديق استثمار ومعاشات تقاعد وأفراد وبنوك وشركات تأمين وغيرهم، وأخيرا وليس بآخر، من البنك المركزي الأمريكي أو مجلس الاحتياطي الفيدرالي، فما علاقته بإقراض الحكومة الأمريكية؟
آلية الاقتراض في أمريكا هي أن تقوم وزارة الخزانة بإصدار السندات، ومن ثم يقوم مجلس الاحتياطي بشرائها من حملة السندات، لذا نجد أن تقريبا 22 في المائة من حجم الدين هو من نصيب مجلس الاحتياطي. هذه العملية تسمى توريق الدين أو طباعة النقود، حيث يقوم البنك المركزي بشراء السندات من السوق وإيداع قيمها لمصلحة المشترين، من خلال حساباتهم البنكية، وهذا ما يعرف كذلك بضخ السيولة، وهو كذلك الإجراء المتبع في عمليات التيسير الكمي.
كثير من التفاعلات التي تتم في أسواق السندات تراهن على استمرار البنك المركزي في عمليات الشراء هذه، كونها عمليات مربحة لمستثمري السندات، ولم تظهر أي بوادر لتوقف هذه اللعبة في القريب العاجل. ومرة أخرى، هذا أحد أهم أسباب تماسك الأسواق الأمريكية كأسهم وكسندات، وبالتالي فإن التخويف من تعثر الحكومة الأمريكية مبالغ فيه، بحسب الأسواق المالية.
نقلا عن الاقتصادية