حينما يندفع بعض من كبار المديرين في عدد من إدارات الأجهزة والمؤسسات العامة لإقرار إعادة هيكلة إداراتهم كل عامين أو ثلاثة أعوام، وتتم عمليات متتالية من اعتماد عقود طائلة وبصورة متكررة مع شركات ومنشآت استشارية محلية وأجنبية، سواء لتنفيذ تلك العمليات عبر إعادة الهيكلة فترة بعد فترة، أو لتنفيذ عشرات المشاريع الموكلة لتلك الإدارة كونها جهة الاختصاص، ثم تتجه بسهولة نحو التعاقد مع منشآت خارجية لتنفيذها بمبالغ كبيرة، ولو بحث المراقب أو المدقق في صلب المهام التي تم أداؤها من قبل المديرين والمستويات الإدارية الأدنى منهم مباشرة، لوجد أن أغلبها قد تركز على التعاقد مع شركات ومنشآت استشارية من خارج تلك الإدارات، وما تكرار تلك التعاقدات فترة بعد فترة إلا تأكيد على أن المحصلة النهائية لها في الأغلب لا ترتقي بالتطلعات والمستوى المأمول، ولا عائد ملموسا منها على مستوى كفاءة الأداء.
إننا أمام أنماط من الاختلالات الإدارية على مستويات عدة، التي بوجودها قد تتسبب في هدر المزيد من الأموال والموارد والجهود، إضافة إلى تسببها في تأخير وفاء تلك الإدارات بما تتحمله من مهام ومسؤوليات، ومن ثم تأخر تحقق المستهدفات الموضوعة وفق ما تم التخطيط له بداية كل عام.
كل هذا يقتضي أن تتم كامل إجراءات تنفيذ الأعمال والمهام والمسؤوليات بحوكمة شاملة ودقيقة جدا، التي يمكن بالاعتماد عليها إخضاع أي قرار أو اقتراح يتعلق بإجراء إعادة هيكلة، أو التعاقد مع أي جهة خارجية لتطوير أو تنفيذ الأعمال والمهام، وبناء على النتيجة النهائية لعمليات وضوابط الحوكمة، يمكن اتخاذ القرار النهائي بالموافقة على تلك الإجراءات أو بعدم الموافقة.
على سبيل المثال، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مجديا اقتراح وإقرار إعادة هيكلة مع كل تغيير في أسماء مديري أو رؤساء تلك الإدارات! وهو الأمر الذي قد يتكرر حدوثه في بعض بيئات العمل المحلية في القطاع العام، مع أن اقتراح إعادة الهيكلة قد يتم اتخاذه حتى في حال لم تتغير أسماء تلك الإدارات! وقد لا يتجاوز السبب الحقيقي وراء تكرار مثل هذا الإجراء فترة بعد فترة، إلا للوهن الشديد في الأسباب والمبررات التي دفعت بمديري الإدارة إلى أول اقتراح بإعادة الهيكلة، لينتج عنها كما هو متوقع، مؤشرات أداء أدنى على مستوى المتغيرات كافة المرتبطة بعملية إعادة الهيكلة السابقة، والدخول في مزيد من الاقتراحات المتكررة بإعادة الهيكلة فترة بعد فترة.
وقس أيضا ما تقدم ذكره على توقيع عدد من العقود مع شركات ومنشآت استشارية خارجية، لأجل تنفيذ المشاريع والمهام والمسؤوليات الموكلة في الأصل إلى تلك الإدارات، والتأكيد هنا على أن ما يجري الحديث حوله في هذا الشأن، يعد أوسع نطاقا وأكبر حجما وأكثر تكلفة مقارنة بإعادة الهيكلة المشار إليها أعلاه، وهو ما يدفع بالأهمية القصوى لإقرار آلية "لحوكمة" كافة تلك الإجراءات، والعمل على خفض التكاليف التي عادة ما تقترن بإجراءات التعاقد مع الشركات والمنشآت الخارجية.
وعلى الرغم من ارتفاع حجم الآثار العكسية لكل ما تقدم ذكره أعلاه على كفاءة أداء الإدارات، وقبل كل ذلك على الموارد المحددة والمعتمدة لها في الموازنات المالية، إلا أن ما قد يكون أكبر خسارة منه، إمكانية أن تتضمن تلك العمليات المتكررة من التعاقدات المبرر منها وغير المبرر، شبهات مالية، لهذا يتجدد التأكيد على الأهمية القصوى لاقتران جميع أشكال تنفيذ الأعمال بأعلى معايير الحوكمة، وقديما قالوا: درهم وقاية خير من قنطار علاج!
إنها المهمة الكبيرة التي تقع مسؤولية توليها وتنفيذها على الأجهزة العامة، ذات العلاقة المباشرة بقياس كفاءة الأداء العام، إضافة إلى الأجهزة الرقابية والمعنية بمكافحة أشكال الفساد وإرساء النزاهة، إلى أن يتم إقرار برنامج وطني خاص بتلك المهام والمسؤوليات. والله ولي التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية