تبادر شركات النفط العالمية الكبرى بالاستثمار في الطاقات المستدامة في نفس الوقت الذي تتهيأ فيه للتعايش مع عصر طاقة جديد. وتأتي خطوات الشركات هذه بعد فترة من المراجعة والدراسات، إذ شكل رد الفعل الأول لشركات النفط موقفاً سلبياً من الحملات العالمية البيئية. لكن، بدأت هذه الشركات تتخذ موقفاً أكثر مرونة، مقروناً بالدراسات والتخطيط لجدوى الاستثمار في الطاقات المتجددة، في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على عملها الرئيس من إنتاج البترول بعد شفط الكربون منه لكي يصبح ملائماً للقوانين البيئية الحديثة.
يتم الإعلان أسبوعيا تقريباً على الصعيد العالمي عن مشاركة الشركات النفطية الكبرى في مشاريع لطاقة الرياح أو الشمسية وإنتاج الهيدروجين الأخضر أو الأزرق أو الأمونيا. وأحدث مثال على ذلك هو اتفاق شركة «أرامكو السعودية» للمشاركة في مشروع «سدير لطاقة الخلايا الشمسية» في السعودية لإنتاج 1.5 غيغاواط طاقة كهربائية. والمشروع هو الأكبر في مجال الطاقة الشمسية من نوعه في السعودية. ويتوقع أن تشارك «أرامكو السعودية» في مشاريع طاقة متجددة أخرى مستقبلاً حسب «رؤية 2030».
هذا، ونظراً للتأييد الواسع لحركة تغيير المناخ في الدول الأوروبية، فقد بادرت الشركات النفطية الأوروبية للعب دور رئيس في هذا التحول الطاقوي التاريخي. فشركة «توتال» الفرنسية مثلاً، غيرت اسمها إلى «توتال إنرجي» كدليل على توسيع أعمالها لتشمل الطاقات المستدامة إلى جانب اهتمامها التقليدي بالنفط والغاز. واتفقت «توتال إنرجي» مؤخراً مع وزارة النفط العراقية على مشاريع ضخمة لتشييد محطات للطاقة الشمسية في العراق، بالإضافة لتطوير مشاريع بترولية.
وتشير وكالة «بلومبرغ» إلى أن شركات النفط والغاز قد أنفقت نحو أربعة مليارات دولار لتطوير تقنيات الطاقات النظيفة في عام 2015. وقد ارتفع هذا المبلغ نحو ثلاثة أضعاف إلى 14 مليار دولار في عام 2019. وقد تحملت الشركات النفطية الأوروبية (ريبسول، وشل، وتوتال) أكثرية النفقات، حيث تركزت أغلب الاستثمارات على الطاقتين الشمسية والرياح.
كثر الاهتمام بالطاقات المستدامة مع تزايد نمو وقوة حركات المجتمع المدني للتغيير المناخي والمساندة العالمية من خلال مؤتمر باريس، الأمر الذي شجع شركات نفطية أوروبية ذات أحجام أصغر في الاستثمار في توليد الكهرباء أوروبياً من طاقة الرياح بالذات. وهذا بالفعل ما حدث مع شركة «أورستيد» الدانماركية التي تملك الآن أكبر منشآت عالمية لطاقة الرياح. وقد باعت أصولها من الحقول النفطية والغازية في بحر الشمال، حيث أصبحت متخصصة بالطاقات المستدامة، بالذات الرياح.
أدت الطاقات البديلة إلى تغييرات مهمة على الصعيد العالمي، وتنافس ما بين الدولتين الاقتصاديتين الكبريين، الولايات المتحدة والصين. فقد استطاعت الصين احتلال المركز الأول في تصنيع السيارة الكهربائية والبطاريات الحديثة وألواح الطاقة الشمسية. وبرزت شركات صينية تقنية عملاقة مستفيدة من أسواقها الداخلية الضخمة ومن إمكاناتها المالية والتقنية للتوسع في الأسواق العالمية. ويتوقع أن تبدأ الهند تدريجياً في تتبع خطوات الصين، فهناك بروز ملحوظ لشركات التقنية الحديثة والطاقات المستدامة في الهند حالياً. وقد شرعت السلطات الهندية القوانين للدفع قدماً بالاعتماد الواسع على الطاقات المستدامة بحلول عام 2040، معتمدة في ذلك على العدد الكبير للشركات المحلية المتخصصة لذلك.
تعهد الرئيس الأميركي جو بايدن منذ الساعات الأولى لعهده بدعم الطاقات المستدامة وسياسة تغيير المناخ. وبالفعل أرسل بسرعة إلى الكونغرس مشروع قانون وموازنة مقترحة بتريليونات الدولارات لتنفيذ السياسة الجديدة. واستغل بايدن هذه الفرصة لتمويل إعادة بناء وصيانة البنى التحتية الأميركية من جسور وطرق ومحطات كهرباء لكي تكون جاهزة للعمل مع مستلزمات الطاقة الجديدة. وقد وافق مجلس الشيوخ على المشروع، مع بعض التعديلات التي اقترحها الجمهوريون. وانتقل مشروع القانون مؤخراً إلى مجلس النواب لمناقشته. ويتوقع أن يوافق النواب، حيث الأغلبية للديمقراطيين الموالين للرئيس على المشروع. ومن ثم يصبح قانوناً بعد توقيع الرئيس عليه.
هناك ظاهرة غريبة في الولايات المتحدة، فرغم تبني معظم شركات السيارات الأميركية تصنيع (على الأقل) نموذج لسيارة كهربائية، ورغم الشهرة الواسعة لسيارة «تسلا»، من الملاحظ أن مبيعات السيارة الكهربائية لا تزال ضئيلة نسبياً. ففي عام 2019، بلغت مبيعات السيارات في السوق الأميركية، نحو 17 مليون سيارة، منها فقط 320 ألف فقط كهربائية، الأمر الذي يعني أنه بدون قوانين تفرض البدء بشراء السيارة الكهربائية - وهذا لم يحدث حتى الآن أميركياً، بل شرعت ولاية كاليفورنيا إلزام شراء السيارة الكهربائية قبيل حلول منتصف القرن - فإلى حينه لا تزال السيارة الكهربائية غير منافسة للسيارة التقليدية.
السؤال الآن، ما هي أولويات إدارة بايدن بعد طريقة الانسحاب المخفقة من أفغانستان التي تواجه انتقادات لاذعة من الجمهوريين وحتى بعض الديمقراطيين والكثير من وسائل الإعلام؟ هل سيستمر بايدن في أجندته حيث أولوية النزاع مع الصين؟ أو هل سيستمر في محاولة الانسحاب من الشرق الأوسط؟ أو تأجيل برنامجه لتشجيع الطاقات المستدامة البالغة كلفته تريليونات الدولارات، ما يعني ضرائب إضافية على المواطن الأميركي؟ والجواب عن السؤال الأخير يتوقع أن يأتي قريباً، قبل مؤتمر الأمم المتحدة المناخي في غلاسكو (كوب - 26) خلال النصف الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، حيث يتوجب على واشنطن تبني موقف بيئي واضح أمام المؤتمر.
نقلا عن الشرق الأوسط