عندما احتفل اليابانيون عام 2013 بفوزهم باستضافة أولمبياد 2020 لم يدر بخلد أكثرهم تشاؤما أن تتغير الأحداث في ذلك العام لتؤجل الأولمبياد عاما كاملا، وتقام بعدها لأول مرة في التاريخ دون جمهور وسياح وفعاليات جماهيرية كما هو المعتاد. ولم يتوقع أحد أن يطالب بعض من احتفل بالأولمبياد بإلغائها كليا بسبب الجائحة وما خلفته في أنفس الناس من خوف من الازدحام والتجمعات الرياضية.
هذه الأولمبياد شكلت معاناة لليابانيين قبل ظهور الجائحة نفسها بسبب تكاليفها العالية وفاقت ميزانيتها الحقيقية الميزانية المخطط لها بمليارات الدولارات. وقد بلغ حجم ميزانية أولمبياد طوكيو 2020 عند التخطيط لها نحو 7.3 مليار دولار، إلا أن الميزانية الفعلية وبحسب المصادر اليابانية الرسمية زادت على 15.4 مليار دولار، وتشير المصادر غير الرسمية إلى أن الميزانية تعدت بالفعل حاجز الـ25 مليار دولار. فهل أساء اليابانيون التخطيط للأولمبياد؟ وهل كانت الجائحة سبب هذه الخسائر الفادحة؟
الواقع أن الفعاليات الأولمبية كثيراً ما ارتبطت بالخسائر المادية منذ عشرات السنين، وقد كان القائد النازي أدولف هتلر أحد أوائل من تسببوا في هذه الخسائر في أولمبياد برلين عام 1936 فلأسباب سياسية، حرص هتلر على أن تبهر برلين العالم في هذا الحدث الرياضي، فكلفت الأولمبياد حينها أكثر من عشر أضعاف أي ألعاب سبقتها. واستمرت سياسة الإنفاق العالية في عدد من الدول بعد ذلك. حيث أظهرت دراسة أن الألعاب التي أقيمت بين عامي 1960 و2016 كلفت أكثر من 150 في المائة من ميزانيتها الأصلية! ولعل أبرز مثال على الإنفاق المبالغ فيه كان في أولمبياد سوتشي في روسيا عام 2016، حيث كلفت أكثر من 50 مليار دولار! لمنشآت عدل أغلبها لاحقا بميزانيات ضخمة لتتناسب مع استضافة روسيا لكأس العالم 2018، كما كلفت أولمبياد بكين في عام 2008 نحو 45 مليار دولار، حرصت خلالها حكومة الصين على إبهار العالم بقدراتها، وتمثل ذلك في حفل الافتتاح التاريخي الذي حبس الأنفاس.
وتتعدد أسباب ارتفاع تكلفة الأولمبياد، إلا أن أحد أوضح هذه الأسباب هو سوء التخطيط في ميزانياتها، والغريب أن هذا التخطيط السيئ تكرر في كثير من الأولمبياد، فعلى سبيل المثال، كلفت أولمبياد ريو دي جانيرو في البرازيل أكثر من 13 مليار دولار، بعد أن كانت الميزانية الأصلية 3 مليارات فقط! كما كلفت ألعاب كوريا الجنوبية عام 2018 نحو 13 مليار بدلا من الـ7 مليارات المخطط لها. وغرقت مدينة مونتريال في الديون لأكثر من ثلاثة عقود بسبب زيادة التكاليف على المخطط له.
واختلفت الألعاب الأولمبية اليوم عما كانت عليه عند بدايتها عام 1896، فكبر حجم الحدث ليصبح حدثا جماهيريا وعالميا، كما زادت الرياضيات لتصبح اليوم نحو 33 لعبة مختلفة. كما زادت التحديات العالمية المحيطة بهذا الحدث، فأصبح العبء الأمني على الدول كبيرا، لا سيما بعد الأحداث الإرهابية عام 1972 في ميونيخ و1996 في أتلانتا. وتبلغ فاتورة الاحتياطات الأمنية وحدها نحو 1.5 مليار دولار. هذه التغيرات في طبيعة الألعاب الأولمبية لم تصاحبها تغيرات تساهم في تخفيض تكلفتها، فلا تزال الألعاب حتى الآن تقام في مدينة واحدة. ومن الصعب على الكثير من المدن أن تحتوي على منشآت وبنى تحتية تمكنها من استضافة 33 لعبة مختلفة، بما في ذلك استضافة مئات الآلاف من الرياضيين وطواقمهم الفنية والإدارية، وعلاوة على ذلك كله استقبال السياح والجماهير وتوفير الحماية الأمنية لهم. هذه النقطة تحديدا جعلت صندوق النقد الدولي يقترح أن تقسم الألعاب على عدد من الدول، على غرار ما فعلته الدول الأوروبية في بطولة اليورو 2020 المقامة مؤخرا.
وتسببت هذه الصعوبات في انسحاب العديد من الدول من استضافة الأولمبياد في العقود الأخيرة، فعلى سبيل المثال، كانت لوس أنجليس المرشح الوحيد لألعاب 1984، كما انسحبت الكثير من الدول الغربية لاستضافة ألعاب الشتاء لعام 2022 بسبب ضغوطات شعبية لإلغاء طلب الاستضافة لا سيما مع الأزمات الاقتصادية التي فرضتها الجائحة. وانسحبت كل من بوسطن وبودابست وروما وهامبورغ من استضافة أولمبياد 2024 لتنحصر «المنافسة» – إن صح التعبير بذلك – على باريس ولوس أنجليس فقط.
هذا السلوك يؤيد آراء الكثير من الاقتصاديين الذين يرون أن العوائد الاقتصادية للأولمبياد مبالغ بها وبشكل كبير. فلم تثبت دراسة حتى الآن العائد الاقتصادي لاستضافة هذه الألعاب، سواء على المدى القصير أو الطويل. ويعود السبب في ذلك على أن معظم الإنفاق على الاستضافة يكون في منشآت ضخمة ومكلفة وفي نفس الوقت مخصصة لألعاب محددة، وبذلك لا يمكن استخدامها لأغراض أخرى بشكل مباشر. ولذلك فإن الكثير من منشآت الألعاب الأولمبية يعاد تأهيلها وبتكلفة عالية لتصبح مجمعات تجارية أو مسارح غنائية أو غيرها دون حاجة إلى ذلك إلا الاستفادة من هذه المنشآت بشكل أو بآخر.
إن ما جعل طوكيو تخسر في هذه الأولمبياد ليست الجائحة فحسب، فرغم أن عدم الحضور الجماهيري كلف الألعاب نحو ملياري دولار، والتأخير لعام كامل كلها 3 مليارات أخرى، إلا أن التكاليف الإضافية زادت وبكل تأكيد على 5 مليارات دولار إلى أكثر من ذلك بكثير. وهو ما يفرض سؤالا واقعيا، لماذا لا تزال الحكومات تحرص على استضافة هذه الألعاب المكلفة اقتصاديا إن لم يكن لديها الملاءة المالية والاستعداد الاقتصادي لهذه الخسائر؟
نقلا عن الشرق الأوسط