نتيجة للأزمة السياسية المستمرة في لبنان، حدث هناك تدهور مالي واقتصادي كبير في لبنان أدى إلى هبوط متسارع في قيمة الليرة اللبنانية، التي كانت لأعوام محافظة على سعر الصرف الرسمي البالغ 1500 ليرة مقابل الدولار. غير أن ذلك تغير بشكل سريع إلى أن تجاوز سعر صرف الدولار الأسبوع الماضي 22 ألف ليرة.
تصنف الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان من ضمن أسوأ عشر أزمات عالمية منذ منتصف القرن الـ19، ذلك بحسب تقرير خاص للبنك الدولي حول الوضع الاقتصادي في لبنان صدر في الأول من حزيران (يونيو) 2021!
ماذا يحدث عندما يكون هناك انهيار في القيمة الشرائية للعملة؟
لأعوام طويلة كان البنك المركزي اللبناني لديه من الاحتياطيات النقدية الأجنبية ما يكفي للدفاع عن سعر الصرف المثبت أمام الدولار، غير أن هذه الاحتياطيات تناقصت بحسب البنك الدولي من نحو 38 مليار دولار نهاية 2019 إلى أن بلغت 23.5 مليار دولار مطلع هذا العام، وهي بلا شك حاليا أقل من ذلك بكثير. بل إن الاحتياطيات ربما بالسالب، كون هذه الأرقام الرسمية لا تشمل التزامات البنك المركزي بالعملات الأجنبية.
لذا، فعندما لا يوجد هناك سيولة نقدية كافية من العملات الأجنبية، فلا يوجد أمام البنك المركزي إلا اللجوء للحكومة لمحاولة الاقتراض من الخارج أو الحصول على دعم دولي بشكل أو آخر. هذا الخيار بالنسبة إلى لبنان بات صعبا بسبب امتناع جهات دولية من إقراض لبنان دون القيام بتغييرات اقتصادية وسياسية كافية للالتزام بشروط الإقراض وضوابطه. من الترتيبات التي يقوم بها البنك المركزي لتخفيف التأثيرات الاقتصادية على الناس، السماح بتبديل الليرة إلى دولار بالسعر الرسمي، أي 1500 ليرة للدولار، وذلك لبعض المستوردين للسلع الأساسية. أي أن سعر الصرف الرسمي لا يستخدم فعليا لا للشراء ولا للبيع، ولكن من الضروري إبقاؤه كما هو إلى أن يكون هناك حل مناسب. كذلك تقوم البنوك التجارية باستخدام سعر صرف أفضل من سعر الصرف الرسمي، ولكن ذلك يمنح في نطاق ضيق لصغار المودعين وبكميات محدودة.
كيف تتعامل المحال التجارية مع تغير سعر الصرف المتسارع؟
ما يحدث في لبنان هو تضخم أسعار كبير نتيجة فقدان الليرة أكثر من 90 في المائة من قيمتها، وبالتالي من غير الممكن لأي محل تجاري الإبقاء على الأسعار القديمة، إلا في حالات محدودة لقليل من المحال التي تبيع سلع مدعومة ولم تضطر إلى رفع أجور عمالها وموظفيها، وهذه قليلة جدا. لذا، الذي يحدث غالبا هو أن كثيرا من المحال التي تعتمد على الاستيراد في منتجاتها، مثل المطاعم والمقاهي ومحال التموينات الغذائية، تقوم برفع أسعار منتجاتها بشكل شبه يومي.
بعض الناس قد يعتقد أن رفع الأسعار بهذا الشكل يعد نوعا من جشع التجار وتصرفا لا مسئول، ولكن الحقيقة إن الهدف من رفع الأسعار بالعملة المحلية هو محاولة التجار قدر المستطاع إبقاء الأسعار كما كانت سابقا، بل وأحيانا خفضها قليلا بسبب ضعف القوة الشرائية لدى الناس.
على سبيل المثال، تقوم المطاعم بتغيير أسعار القائمة يوميا لتبقى الأسعار كما هي لو تم قياسها بالدولار، فالشيء الذي كان سابقا يباع بما يعادل دولار واحد، سيحاول التاجر بيعه بما يعادل دولار، على الرغم من أن هذا يعني تغير السعر من 1500 ليرة على سبيل المثال إلى 20 ألف ليرة!
هل معنى ذلك أن السياحة إلى لبنان ستكون أرخص بسبب ضعف الليرة؟
يخطئ من يعتقد أنه بسبب ضعف الليرة أن الأشياء في لبنان ستكون أرخص للأجنبي من السابق، والسبب مرة أخرى هو أن الأسعار المحلية تتغير باستمرار لتتماشى مع التغير في المستوى المعيشي المرتفع التكاليف. على سبيل المثال، تجد سعر مشروب الكولا المعروف ارتفع سعره بالليرة في بعض المطاعم من أقل من ألف ليرة قبل عامين إلى 15 ألف ليرة حاليا، أو نحو ثلاثة ريالات، بمعنى أن سعر المشروب فعليا لم يتغير. لذا، فالأسعار لا تتغير كثيرا بالنسبة إلى السائح، عدا أن بعض المحال تقوم بتخفيض أسعارها قليلا - أي تتخلى عن جزء من أرباحها - من أجل المحافظة على عملائها نتيجة اختلال القوة الشرائية.
إذا كان متوسط المرتب الشهري في لبنان لموظفي الدولة نحو ثلاثة ملايين ليرة، فهذا كان سابقا يعادل نحو ألفي دولار، وكان يعد مرتبا مرتفعا نسبيا، مقارنة بكثير من البلدان العربية، إلا أن هذا المرتب اليوم يعادل نحو 150 دولارا فقط. أما بالنسبة إلى السلك العسكري، فالوضع أسوأ، حيث يتقاضى الجندي 1.3 مليون ليرة شهريا، حاليا تعادل نحو 65 دولارا.
عندما تفقد العملة قوتها الشرائية لأسباب نقدية بحتة، فالذي يحصل غالبا أن تحافظ معظم الأصول على قيمها، خصوصا الأصول العقارية وأسهم الشركات، وهذا ما هو مشاهد في لبنان. ولكن بخصوص أسهم الشركات منذ بداية العام، فهي بالفعل ارتفعت بشكل كبير بالليرة، أما قياسا بالدولار، فهي تعد منخفضة، والسبب أن أسعار الأسهم تصحح نفسها بالصعود نتيجة فقدان العملة المحلية قيمتها، وفي الوقت نفسه تنخفض أسعار الأسهم بسبب ضعف القوة الشرائية التي تؤثر في ربحية الشركات.
هناك مؤشر معروف ترصده مجلة الاقتصادي البريطانية منذ أعوام طويلة، ويسمى مؤشر ساندويتش "بيج ماك"، والهدف منه مقارنة أسعار منتج معروف لدى كثير من الناس للتوصل إلى معرفة مستوى القوة الشرائية في كل دولة. من خلال هذا المؤشر نستطيع تحديد سعر الصرف لكل دولة مقابل الدولار، وذلك بمقارنة أسعار الساندويتش بالعملة المحلية ومن ثم تحويل السعر إلى الدولار، ومنها يمكن معرفة سعر الصرف المفترض.
هذه الأيام سعر ساندويتش "بيج ماك" في لبنان، بحسب هذا المؤشر، وبحسب بحث سريع قمت به، يبلغ 37 ألف ليرة، فماذا يعني ذلك؟ لو أخذنا بالسعر الرسمي، والذي كان سابقا هو السعر المعروف للدولار، والبالغ 1500 ليرة للدولار، فسيكون سعر الساندويتش نحو 25 دولارا، أو 92 ريالا! لذا، بالنسبة إلى المواطن اللبناني، فإن هذا السعر بالفعل يعد 92 ريالا، لأنه سيدفع 37 ألف ليرة لطعام كان يشتريه بنحو خمسة آلاف ليرة سابقا. أما بالنسبة إلى السائح، فإن تكلفة الساندويتش الإثنين الماضي، على فرض سعر صرف 19 ألف ليرة في السوق السوداء، نحو دولارين فقط، أو نحو 7.5 ريال، وهذا سعر منخفض نسبيا بسبب أن المطعم مضطر إلى خفض أسعاره للاستمرار في تقديم منتجاته للعملاء.
من مؤشر "بيج ماك" نستطيع تقدير سعر الصرف المفترض بناء على أسعار الساندويتش، ولكن يجب التنبيه إلى أن هذا المؤشر، على الرغم من شهرته الكبيرة، فهو يعد تقريبيا وغير دقيق ولا يعتد به رسميا. فإذا كان سعر الساندويتش في المملكة 3.73 دولار "14 ريالا"، وسعره في لبنان حسب السوق السوداء 1.70 دولار، فهذا يعني أن 37 ألف ليرة تساوي 3.73 دولار، أي أن سعر الصرف الضمني، بناء على هذه المعطيات: دولار واحد = 9920 ليرة.
نقلا عن الاقتصادية