لكلمة (نجد) وقع جميل في قلب كل عربي، سواء رآها أم لم يرها.. لأنها كانت ولا تزال رمزاً للشعر الأصيل، ونجماً يومض بالإلهام الشاعري، واسماً ارتبط بالحب العذري خاصة، وبالحب بشكل عام، وبالفروسية والكرم..
من عاش في نجد أحبَّها واستطاب عيشها، ومن فارقها حَنَّ لها وبكى عليها، وتراثنا الشعري - الفصيح والشعبي - مليء بذكر نجد، وبحبِّ نجد، وبلوعة فراق نجد..
فالعربي من نجد لا يفارقها إلا موجع القلب باكياً، يقول الصمة القشيري المتوفى سنة 95ه:
قفَا ودِّعا نجداً ومَنء حَلّ بالحمى
وَقَلَّ لنجد عندنا أن يُوَدَّعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرُّبا
وما أحسَنَ المُصَطافَ والمُتَربَّعا
واذكر أيام الحمى ثم انثني
على كبدي من خشية أن تَصَدَّعا
تلفتُّ نحو الحي حتى وجدتني
وَجعءتُ من الإصغاء ليتاً وأخدعا
وليستء عشيَّاتُ الحمى برواجع
عليك ولكن خلِّ عينيك تدمعا
بكت عيني اليسرى فلمَّا زجرتُها
عن الجهل بعدَ الحلم اسبلتا مَعَا
وللصمة أشعار وجدانية جميلة في الوله إلى نجد ووصف رباها وأزهارها الصحراوية وإعلان حبها، وشعرُهُ مُتءرَعٌ بالعاطفة جيَّاشٌ بالوجدان، يخرج من القلب فيدخل القلب..
@@@
ويقول محمد بن أحمد السديري:
أنا من نجد يكفيني هواها
ويبري لوعتي شرءبي لماها
وشوقي مَن نَبيهء ومن نودّه
غزال تابع قلبي هواها
غزال ضيَّعت قلبي وروحي
رَمَتء قلبي، وقلبي ما رماها
تعرف أني لها مملوك طايع
أبيع الروح في دُوءرَة رضاها
اهيم بحبها وأخفي جروحي
وقلبي ما عشق زول سواها
توقَّد حُبَّها بأقصى فؤادي
ونار الحب يحرقني لظاها
ونجد كأنَّ في هوائها سحراً ينفث الهوى في القلوب، وكأنَّ في نسائها إلهاماً يبعث العشق في الأعماق، مشاهير العشاق من نجد: عروة بن حزام، عنترة بن شداد، قيس بن الملوح (مجنون ليلى)، جميل بن معمر (جميل بثنية)، كثيرِّ بن عبدالرحمن (كثير عزَّة)، قيس بن ذريح (قيس بثينة).. هذا غيضٌ من فيض.. وفي (بني عُذءرة) - وهي من قبائل نجد - عدد من العشاق لا يحصى، بعضهم مات عشقاً، ولهم ينسب (الحُبُّ العذري)..
ورد في كتاب الأغاني:
".. خرج منى فتى حتى إذا كان ببئر ميمون، إذا جماعةٌ فوق جبل، وإذا معهم فتى أبيض طوال جَعءد كأحسن من رأيتُ من الرجال على هزال منه وصفرة، وإذا هم متعلقون به، فسألتُ عنه، فقيل لي: هذا قيس بن المُلوَّح خارجاً به أبوه ليدعو له، لعل الله يكشف ما به من عشق أشفى به على الجنون، فرأيته ينظر ويقول: أخرجوني لعلي اتنسم صَبَا نجد.. فيتوجهون به نحو نجد محيطين به خوفاً من أن يرمي نفسه من أعلى الجبل..
فدنوتُ منه وأخبرته أنني أقبلتُ من نجد فتنهد، وأنس لي، ثم جعل يسألني من موضع وموضع، وعن واد وواد، كلها بنجد، ثم أنشد:
ألا ليت شعري عن عوارضتيء قَنَا
يطول الليالي هل تغيَّرتا بعدي؟
وعن عُلُوَيات الرياح إذا جَرَتء
بريح الخزامى هل تَهُبُّ على نجد؟
وعن أُقُحُوان الرمل ما هو فاعلٌ
إذا هو أسرى ليلة بثرى نجد..
الأغاني ج 2ترجمة المجنون باختصار وتصرف يسير.. وفي العصر الحديث مات نجديون بالعشق مثل الشاعر (الدجيما الروقي) وغيره..
@@@
وقد ذكر ياقوت الحموي صاحب (معجم البلدان) وهو أشهر مؤلف في هذا الفن، أنه لم يذكر الشعراء موضعاً أكثر مما ذكروا نجداً، ولم يتشوقوا لأي أرض، كما تشوقوا لأرض نجد..
ضربت رقماً قياسياً في هذا المجال!
@@@
ويقول رفاعة بن عاصم الفقسي:
أَحَبُّ بلاد الله ما بين مَنءعَج
إليَّ، وسلمى أن يصوبَ سَحَابُها
بلادٌ بها نيطت عليَّ تمائمي
وأوَّلُ أرض مَسَّ جلءدي ترابها
هذا ولد في نجد فأحبها لأنها أول أرض مَسَّ جلده ترابها، ولكن هناك ملايين العرب على مَرِّ العصور والدهور أحبوا نجداً وهم لم يولدوا بها، بل ولم يروها، ولكن لأنها مهد القبائل العربية الأصيلة، وكثير من العرب النازحين إلى الغرب والشمال، لهم أصول بعيدة في نجد، من عَمّ أو خال، كما أن كبار شعراء العربية من نجد مثل امرئ القيس وطرفة بن العبد والمهلهل ابن ربيعة (الزير) وعمر بن كلثوم، وزهير وعلقمة بن عبده وتميم بن مقبل والخنساء والأعشى وعشرات غيرهم..
وهي مواطن أبطال صاروا مضرب المثل، كعنترة ابن شداد وعامر بن الطفيل وكليب بن ربيعة وعمرو بن كلثوم وعشرات غيرهم.. وهي موطن رجال ضرب بهم المثل في الكرم والإيثار مثل عروة بن الورد والمحرق وحاتم الطائي الذي كان يوقد ناره في صحراء نجد في عزِّ الشتاء رجاء ضيف:
أوقدء فإن الليل ليلٌ قَرٌّ
والرِّيحُ يا غلامُ ريحُ صَرُّ
عسى يرى نارك من يُمُرُّ
إن جلبتَ ضيفاً فأنت حُرُّ!
والمراجل في نجد تتوارث كابراً عن كابر يقول شاعر نجدي بينه وبين حاتم أكثر من ألف وخمسمائة عام:
يا "كليب" شبّ النار يا "كليب" شبه
"يا كليب" شبه والحطب لك يجاب
عليَّ أنا يا كليب هَيءلَه وحَبّه
وعليك تقليط (الدّلال) العذَاب
لا راقَدَ الهلباج خَطءوَ الجلبّه
ياما حلا يا كليب خبط الركاب
في ليلة ظلما وصَلءف مَهَبّه
متلثمين وسَوءقَهم بالعقاب
@@@
وكما أن نجداً أصبحت رمزاً للمراجل ومكارم الأخلاق، فإنها (يُعَيَّرُ بها) ويُهءجَى من أخزته فعائله، يقول جرير (وأصلُ جرير من نجد) يقول يهجو:
فإن تَسءألوا يا (...) عنكم تُحَدَّثُوا
أحاديثَ يخزيكم (بنجد) يقيُنها!
@@@
ولا يفارق نجداً راعيها إلا مضطراً لطلب الرزق، خاصة حين كانت نجد فقيرة.. يقول أبو عادل إبراهيم الحميضي وقد فارق بلده (القصب) في قلب نجد:
جيت ابجرَّب وغرَّتني تجاريبي
جرحت يمناي جرح قلّ تطبابهء
لا قالوا الناس طيِّب قلت ما اطيبي
الا ان تحدَّر علي طويق بهضابه
مهوب بغض لديرتنا واصاحيبي
مار أن قلبي دبوب الهم يرعى به
وقد أغناه الله في سفره وظل وفياً لديرته رحمه الله رحمة واسعة، توفي سنة 1408ه (انظر كتاب (مدينة القصب) للأستاذ ناصر بن عبدالله الحميضي ص 67) وكتابه الآخر (القصب) ص 129
@@@
ولأبي الحسن التهامي المتوفى سنة 416ه شعر كثير في نجد بعد أن غادرها إلى الشام، والعجيب أن الباخرزي في كتابه (دمية القصر) يصف شعر التهاوي بهذا الأسلوب (له شعر أرقُّ من دين الفاسق وأرق من دمع العاشق)!!
من شعره:
1- زارني في دمشق من أرض نجد
لك طيف أسرى ففكك أسري
2- سقى الله الحيا نجداً فإني
لذو قلب إلى نجد نزوع
3- فإن يكُ شخصي بالثغور فمُهجتي
بنجد سقاه المزنُ صوب غمامه
4- أهدى لنا طيفُها نجداً وساكنه
حتى اقتنصنا ظباء البدو في الحضر!
5- وتدَّعي بصبا نجد فإن خَطَرَتء
كانت جوى لك دون الناس كلهم!
@@@
حتى المطر إذا جاء رائقاً عابقاً بزكي الروائح يراه العرب مسوقاً من نجد، مُطرَ البحتري في حمص فقال يصف السحابة:
ذات ارتجاز بحنين الرعد
مجرورة الذيل صدوق الوعد
مسفوحةُ الدمع لغير وَجءد
لها نسيمٌ كنسيم الورد
جاءت بها ريحُ الصَّبا من نجد
فانتثرتء مثل انتثار العقءد
فراحت الأرض بعيش رَغءد
من وَشي أنوار الرُّبَا في بُرءد (2)
@@@
وقد ألف الأستاذ خالد بن محمد الخنين سفراً كبيراً بعنوان (نجد وأصداء مفاتنها في الشعر) في ثلاثة مجلدات ذكر فيه كل شعر فصيح ورد فيه اسم نجد، كما أن للأستاذ محمد بن عبدالله الحمدان كتاب (صبا نجد: نجد في الشعر العربي) وهناك كتب أخرى في هذا الموضوع الشاعري.
@@@
وختاماً مع عبدالله بن لويحان في هذا الشعر الصادق:
يا نجد ياما بك من الخبث والطيب
يا حلو لذَّاتها وما أكثر نكدها!
معشوقة جاها ثلاثين خطيِّب
كل خطبها ميرعيَّا ولدها
ترى ولدها للي يهدي الأصاعيب
مبدأه حيضان المنايا وردها
عبدالعزيز اللي بعيد عن العيب
فَعل وحصَّلها وهو قد فقدءها
عبدالعزيز اللي به المادح مصيب
اطفى مساوي نجد واظهر سعدءها
لين أصبحت حلوة لذيذة مشاريب
واللي حكى بعض السوالف جحدءها
ذخر لنجد وسور، غَصءب بلا طيب
عمن تهقواها وعمن حَسَدءها
(1) منعج: واد في نجد، يصب من الدهناء إذا سالت، وسلمى هو الجبل المشهور بحائل أحد جبلي طي (أجا وسلمى) وقد حدد الشاعر البلاد التي يحبها: نجداً من شرقها لشمالها! نجداً كلها!.
(2) الوشي: التطريز الملون، البُرءد: الثوب. والأنوار: الأزهار، يقول إن أزهار الربا بألوانها تشبه الثوب الجميل المزخرف المطرز بالألوان.
نقلا عن الرياض