أدركت دول العالم التي شاركت في الحرب العالمية الثانية أن احد أهم السبل لخروجها من تبعات هذه الحرب المدمرة هو تطوير رأس المال البشري للنهوض بمجتمعاتها واقتصاداتها وحتى يتحقق لها ذلك ركّزت على التعليم فهو صانع العقول المفكرة والمبتكرة والمخترعة وفعلياً تحقق لتلك الدول ذلك بعد التوجه الواسع النطاق لبناء مجتمع متعلم حتى أصبحت هذه الدول هي المتقدمة والرائدة عالمياً بالاختراعات وبامتلاك اقتصادات ضخمة ولعل التجربة الكورية الجنوبية خير مثال، وأيضاً في أوروبا تحقق ذات الأمر من النجاح بعد أن أصبحت نظم التعليم لهذه الدول نموذجاً يحتذى به عالمياً وفي المملكة حقق التركيز على التعليم تقدماً كبيراً في العقود الماضية بعد اعتماد أول خطة تنمية قبل خمسين عاماً لتتقلّص نسبة الأمية لحد التلاشي تماماً في وقتنا الحاضر بعد أن كانت بنسبة مرتفعة تفوق 50 بالمائة قبل ستة عقود تقريباً، لكن المملكة اليوم تنظر للتعليم على انه مفتاح نجاح تحقيق رؤيتها التنموية.
ورغم أن الإنفاق على التعليم يفوق 22 بالمائة من إجمالي الموازنة العامة سنوياً ومنذ قرابة 20 عاماً الأخيرة تخللها بناء آلاف المدارس ومئات المعاهد وعشرات الجامعات لتستوعب ما يقارب 50 بالمائة من المجتمع ما بين الطلاب الحاليين أو الأطفال القادمين الجدد سنوياً للدخول بنظام التعليم، حيث يعد ذلك من أهم مزايا المجتمع السعودي بأنه فتي ولديه طاقات بشرية كبيرة إلا أن إطلاق رؤية 2030 قبل خمسة أعوام شكل مفترق طرق لاقتصاد المملكة ومجتمعها ومن بين أهم التغيّرات التي يتم التركيز عليها التغيير الجذري بمنظومة التعليم لتواكب متطلبات الرؤية والعصر الحديث القائم على الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا بمفهومها الشامل ومنذ قرابة العامين بدأت تظهر ملامح هذا التحول بالتعليم بعد دمج كافة القطاعات التعليمية تحت مظلة وزارة واحدة قبل قرابة ستة أعوام، حيث صدر بالعام 2019 نظام الجامعات الجديد وكذلك تطوير شامل لنظام الكوادر البشرية بالتعليم العام كالمسميات والسلم الوظيفي بالإضافة للانتهاء من تجهيز العديد من المشاريع التعليمية وإطلاق نظام تعليم الطفولة المبكرة وغيرها من الإجراءات وهيكلة شاملة لوزارة التعليم ظهر فيها مركز خاص للمناهج التعليمية بعد إلغاء وكالة المناهج والتحول لنظام اللجان الذي لم يحقق المأمول قبل ذلك بعد سنوات، حيث أسس المركز الجديد لمنهجية تطوير المناهج بما يتناسب مع عالمنا اليوم وكذلك بالمستقبل.
وحتى تستكمل عملية التطوير فإن هيكلة التقويم الدراسي تعد من العوامل الرئيسية لمعالجة الخلل بالفاقد التعليمي وبالفجوات المعرفية للطلاب فالانتقال لنظام الفصول الثلاثة سيعيد ترتيب وتنظيم العام الدراسي من العام الدراسي القادم، بحيث ترتفع أيام الدراسة من 154 يوماً كواحد من أقل الأعوام الدراسية بين دول العالم المتقدم أو الناشئ إلى 183 يوماً لتكون المملكة من بين أعلى الدول بعدد أيام الدراسة وقد راعى النظام الجديد إعادة توزيع الإجازات على مدى العام ليبقى الطلاب في حالة تواصل معرفي ودراسي من سنة لأخرى دون انقطاعات كبيرة، فالإجازة الصيفية لهذا العام على سبيل المثال تصل لقرابة 123 يوماً أي حوالي 35 بالمائة من السنة وهي فجوة كبيرة تسمح بنسيان الطلاب للمهارات التي تعلموها بالعام السابق وهذا حال قائم منذ سنوات بينما في النظام الجديد فإن أعلى الانقطاعات لن تتعدى الشهرين كما أن عدد ساعات الدراسة السنوية سيرتفع بأكثر من 22 بالمائة وأعلى وفق المراحل التعليمية وستضاف حصص للمواد العلمية لكي نواكب متطلبات الاقتصاد المعرفي إضافة لإدخال مناهج في المهارات الرقمية والمهارات الحياتية والأسرية والفكر الناقد والتربية الوطنية الاجتماعية لتعزيز الهوية الوطنية وأيضاً في التربية البدنية والدفاع عن النفس وفي التربية الفنية الشاملة.
الانتقال لهذه الهيكلة بالعام الدراسي القادم وإضافة مواد وتطوير مناهج قائمة وتعليم اللغة الإنجليزية من الأول الابتدائي وللتركيز على علوم العصر يواكب متطلبات الرؤية لرفده بموارد بشرية مؤهلة للتعامل مع الاقتصاد الرقمي والمعرفي وعصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي وتشغيل المشاريع والقطاعات التي يتم التركيز عليها لتنويع الاقتصاد ومصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط فبدون نظام تعليمي متكامل بمعالجاته لن يتحقق جل الأهداف المرصودة في مشروع التنمية المستدامة للمملكة ولذلك فإن العام القادم سيمثِّل بداية عصر تعليمي جديد في المملكة وأول تحديث يتم منذ 28 عاماً، فالتنافسية الدولية تتطلب مهارات بشرية من نوع مختلف لنكون متحالفين مع عصر الرقمنة والابتكار التكنولوجي.
نقلا عن الجزيرة