نشرت وكالة الطاقة الدولية في 18 مايو (أيار) الماضي تقريرا من 224 صفحة تشرح فيه بإسهاب التوقعات والسيناريوهات حول خريطة الطريق للتوصل إلى عالم «صفر الانبعاثات في 2050». وقد أعدت الوكالة التقرير بناء على طلب الرئاسة البريطانية لمؤتمر الأمم المتحدة لتغيير المناخ «كوب 26»، المقرر عقده في غلاسكو في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والذي يعتبر أهم مؤتمر للمناخ منذ اتفاق باريس، حيث من المتوقع أن تناقش الدول تنفيذ الالتزامات التي تعهدت بها. وقد حذرت الوكالة في تقريرها من أن التعهدات الدولية الحالية لتحقيق «صفر انبعاثات بحلول 2050» غير كافية للحد من زيادة درجة الحرارة العالمية 1.5 درجة مئوية. كما حذرت أيضا من مسؤولية قطاع الطاقة على الاحتباس الحراري، الذي وصفته بأنه أهم تحد تواجه الإنسانية. وقد شكّل هذا التحذير ركناً أساسياً من أركان التقرير، وإحدى الأولويات الواجب معالجتها.
شمل التقرير أموراً رئيسية، الأولى: رسم خريطة الطريق والسيناريوهات لإمكانية التوصل إلى الهدف المناخي المنشود بمنتصف القرن، وما هو المطلوب تنفيذه لتحقيق ذلك. ثانيا: الإشارة إلى التوقعات والإمكانيات للحصول على الطاقات المستدامة اللازمة، ثالثا: تبيان مدى التزام الدول الكبرى بتقليص ظاهرة الدفيئات عن طريق التحول من العصر الهيدروكربوني إلى عصر الطاقات المستدامة، نظرا لأهمية ذلك في مكافحة الاحتباس الحراري. فقد استعرض التقرير بإسهاب مرحلتين زمنيتين - قصيرة المدى حتى عام 2030 وبعيدة المدى حتى عام 2050. توقعت الدراسة توفر جميع تقنيات الطاقات المستدامة المطلوبة لتحقيق الأهداف المرجوة بحلول 2030، لكن لا يزال حوالي نصف التقنيات المطلوبة لعام 2050 تحت التجربة (بالذات لاستعمال وقود الهيدروجين والميثان وتطوير سعة البطاريات الحديثة وتجميع وتخزين ثاني أكسيد الكربون).
كما تبنى التقرير أكثر من 400 معلم لمختلف أنواع الطاقة والتقنيات التي يتوجب توفرها بحلول 2050 لتحقيق الهدف المناخي المنشود. وبما أن التعامل مع التغير المناخي يشمل، بطبيعته، دول العالم بأجمعها، فإن نجاح التحول الطاقوي يجب أن يشمل مختلف دول العالم لكي تنجح المحاولات للتأثير على التغير المناخي. لكن الطريقة التي اعتمدت في اتفاقية باريس، هي أنه يتوجب على كل دولة رسم استراتيجيتها للتحول الطاقوي والالتزام بالتغير المناخي حسب إمكانياتها وقدرتها. وهذا هو بالضبط ما أدى إلى قلق المسؤولين عن مؤتمر غلاسكو المقبل، إذ اكتشفوا أن التعهدات غير كافية وكذلك الالتزامات التنفيذية. ومن ثم، يتوجب مراجعة هذه التعهدات ورسم خريطة طريق جديدة لمدى تنفيذ التعهدات. وخير دليل على خطورة هذا التحدي هو أن عدد الدول المتعهدة بتحقيق «صفر انبعاثات بحلول 2050» قد تزايد، وتشكل في مجملها مسؤولية 70 في المائة من كبح الانبعاثات، لكن من الملاحظ في نفس الوقت ازدياد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. هذا سيعني أنه سيوجد 22 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون حول العالم بحلول 2050، وأن درجة الحرارة سترتفع إلى 2.1 درجة مئوية في منتصف القرن. ويقترح التقرير حلولا متعددة، منها: «عدم ضرورة الاستثمار في صناعات الوقود الأحفوري». كما يتوقع ارتفاع حصة الطاقات المستدامة في توليد الكهرباء من 12 في المائة في عام 2020 إلى 35 في المائة في 2050، وأن ينخفض استهلاك النفط إلى حدود دنيا، بحيث تنحصر مستقبلا في السلع البلاستيكية التي تحتوي على الانبعاثات داخلها وعلى المنشآت التي لديها الوسائل التقنية لتجميع وتخزين ثاني أكسيد الكربون أو الوقود ذي الانبعاثات الضئيلة.
خلاصة الأمر، يمكن تشبيه خريطة طريق وكالة الطاقة الدولية بتحرك قطار على سكة حديد دولية. فالقاطرة موجودة ومتأهبة للانطلاق. كما أن هناك عربات محدودة العدد تحتوي على عدد محدود من الركاب. لكن، رغم توافر العوامل الأساسية هذه لانطلاق القاطرة والعربات على السكة، فإن تشييد السكة لم يكتمل بناؤه حسب المواصفات المطلوبة في جميع الدول، كما هو مفروض. فمن المتوقع استكمال التشييد تدريجيا قبل وصول القطار، كما أن عدد الركاب سيزداد تدريجيا في المحطات المقبلة. لكن عددهم غير معروف بالضبط حتى موعد انطلاق القاطرة من المحطة الأولى.
لقد أوضحت الكثير من الدراسات العالمية بإشراف الأمم المتحدة أن العالم يعاني من أزمة مناخية، متمثلة بذوبان الكتل الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي، وحرائق غابات الأمازون وغيرها من الغابات وغرق الجزر والسواحل. كما تفترض معظم الدراسات العلمية هذه أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والميثان تلعب دورا رئيسيا في هذا التلوث. وبالفعل، فقد انطلق العالم خلال العقود الماضية لإيجاد السبل اللازمة لحل المشكلة الكبرى التي تعانيها الكرة الأرضية.
وقد انتقلنا الآن إلى حالة هجينة، حيث لا تزال المصادر الأحفورية (النفط والغاز والفحم) مهيمنة على الصناعات بمختلفها (توليد الكهرباء ووقود السيارات ومصانع البتروكيماويات، الخ). لكن، قد بدأ التحول فعلا إلى طاقات جديدة وعالم هجين. فهناك حوالي 10 ملايين سيارة كهربائية على الطرق الآن، مقارنة بنحو 1.5 مليار سيارة ذات محرك الاحتراق الداخلي (البنزين والديزل)، وأن 80 في المائة من محطات الكهرباء الحديثة في العالم تزود بالطاقات المستدامة.
فقد بدأ هذا العالم الهجين وانطلقت القاطرة والمركبات على السكة الحديدية. السؤال هل من الممكن التوصل إلى نهايتها في الموعد المحدد بما هو متوفر من تقنيات وأموال وعلاقات «جيدة» ما بين الدول؟
فرغم البحث القيم والمزود بمختلف الفرضيات والتوقعات، فلم نقرأ عن النتائج المترتبة على الخلافات الاقتصادية والعلمية ما بين الدول، أو حتى في داخل بعض الدول الكبرى المؤثرة على عملية تحول الطاقة. فالخلاف الجيوسياسي ما بين الولايات المتحدة والصين له انعكاسات وردود فعل على موضوع التغير المناخي. وإمكانية تسلم زعيم يميني متشدد في دولة كبرى، كالرئيس دونالد ترمب في الولايات المتحدة، الذي اعتبر اتفاقية باريس مضرة للاقتصاد الأميركي وسحب عضوية بلاده منها، رغم أهميته، لم نجد تأثير هذه العقبات أمام التمكن من تحقيق صفر انبعاثات في موعده المحدد 2050.
نقلا عن الشرق الأوسط