بدأت العديد من بيوت الخبرة العالمية التلميح لمخاوف من احتمال ارتفاع متسارع في معدلات التضخم، قد يمثل صدمة غير متوقعة للبنوك المركزية؛ وهو ما سيضطرها لإعادة النظر في سياساتها النقدية المرنة حاليًا، فيما يبقى لبعض المؤسسات الأخرى رأي مغاير بأن التضخم لن يمثل مصدر قلق على المدى المنظور، ويدعم ذلك ما ذهب له صندوق النقد الدولي؛ إذ توقّع أن تبقى معدلات التضخم تحت السيطرة حتى عام 2025م. وبالعودة للأزمة المالية التي نشبت عام 2008م فإن معدلات التضخم لم ترتفع بما يقلق رغم ارتفاع أسعار السلع بعدها، وعلى رأسها النفط الذي تخطى حاجز المائة دولار لسنوات عدة، مع تيسير كمي ضخم، وفائدة صفرية بأمريكا، وسالبة لفترات في منطقة اليورو.
لكن في الأزمة الاقتصادية الحالية يبدو المشهد مختلفًا، لحد ما لا يمكن قياسه، إنما لا جدال على وجود هذا الاختلاف؛ إذ حجم الضخ المالي أكبر بكثير، والدول تقدم مبادرات تحفيزية ضخمة، آخرها موافقة الكونجرس على خطة الرئيس بايدن لإنعاش الاقتصاد الأمريكي من خلال التصدي لآثار جائحة كورونا على الأُسر الأمريكية، وارتفاع معدلات البطالة التي بلغ مجموع المبالغ المرصودة لها 1.9 تريليون دولار رغم أن أمريكا ضخت العام الماضي قرابة ثلاثة تريليونات دولار من بنكها الفيدرالي والخزانة الأمريكية. ومع محاولة الدول الآسيوية، وعلى رأسها الصين، تعويض ما فاتها من تسليم لطلبات كان مقررًا إنتاجها في العام الماضي بدأت أسعار السلع والمواد الخام ترتفع عالميًّا، فالمعادن - وعلى رأسها النحاس - تجاوزت أسعارها ما كانت عليه قبل عشرة أعوام؛ والدليل حجم الاستفادة التي أعلنت عنها الدول المنتجة له - وعلى رأسها تشيلي - إضافة لزيادة الطلب على السلع الغذائية، مع ارتفاع الطلب العالمي، وبدأت كذلك مؤشرات التضخم بألمانيا ترتفع مع ارتفاع أسعار المستهلكين، وهي الدولة الأكبر اقتصاديًّا بأوروبا، ومن أكبر المصنعين بالعالم.
بينما ظهر التضخم بدول عديدة بارتفاعات كبيرة، من بينها اقتصادات ناشئة؛ فالاقتصادات الكبرى، والعالم عمومًا، ما زال تصارع تداعيات هذا الفيروس، والعمل قائم لاستعادة النمو الاقتصادي واستقراره؛ ولذلك فإنه من الطبيعي أن تبقى أسعار الفائدة عند مستوياتها المنخفضة والسياسات التوسعية المالية والنقدية قائمة؛ وذلك للعودة للنمو، ومعالجة الأضرار التي نتجت من الجائحة بعد أن فقد نحو 100 مليون إنسان وظائفهم عالميًّا، وهو ما يوضح إشارة بعض البنوك المركزية لاحتمال رفعها لمعدل التضخم المستهدف. فالفيدرالي الأمريكي أشار إلى احتمال رفع النسبة لأكثر من 2 في المائة المستهدفة عادة، وهو ما يوضح عمق حجم الأزمة الاقتصادية، والاستعداد للكثير من الاستثناءات بالمرونة النقدية لإعادة النمو للاقتصاد، ولكن مع احتمال طول أمد الأزمة، وعدم السيطرة سريعًا على تفشي الفيروس، سيطول أمد السياسات النقدية والمالية التوسعية، وهو ما قد يفضي بالضرورة لرفع معدلات التضخم في وقت أسرع. فهل سيعني ذلك اضطرارها لتقييد بعض المرونة بسياساتها؟
مما لا شك فيه أن العالم يواجه أزمة ضخمة، وتشعباتها عديدة. ورغم النجاح لحد كبير بتجاوز أغلب سلبياتها لكن بقاء تفشي الوباء وبطء إنتاج
وتسليم اللقاحات سيمثل عامل خطورة في حال زاد التضخم، وتغيرت السياسات النقدية تحديدًا نحو التشدد في وقت أبكر من التوقعات، وقبل أن يستعيد الاقتصاد عافيته تمامًا، وتحديدًا في الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا قد يعني الانزلاق لركود جديد، لكنه مصحوب بتضخم، وإن كان هذا الاحتمال ضعيف لكن السيناريوهات تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات؛ وهو ما يستوجب أخذ الحيطة والحذر من قطاع الأعمال والمتعاملين بالأسواق المالية لمراقبة مؤشرات التضخم للبقاء عن قرب لما يمكن أن يتخذ من قرارات من البنوك المركزية عالميًّا لكبح التضخم في حال ارتفع عن الحد المستهدف بوتيرة سريعة.
نقلا عن الجزيرة