تتصاعد المخاوف في أسواق النفط من أزمة في العرض بعد عام 2022، لكن هل هناك ما يبررها؟ يكمن القلق في أن أعواما من ضعف الاستثمار في المشاريع الاستخراجية (المنبع) قد يظهر تأثيرها قريبا، تماما كما حدث التباطؤ في إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة، ما يؤدي إلى نقص في المعروض وارتفاع محتمل في الأسعار. تبدو النظرة المستقبلية للاستثمار قاتمة أيضا، حيث أدت جائحة كورونا إلى زيادة الضغوط على المنتجين لخفض النفقات الرأسمالية.
ومع ذلك، فإن أزمة العرض ليست مؤكدة على المدى المتوسط لأنها تفترض أن الطلب على النفط سيعود إلى الأنماط القديمة في عالم ما بعد كورونا. إن انخفاض أسعار النفط، وتشديد شروط الائتمان، وعدم الرغبة في الاستثمار في المشاريع العملاقة خارج منظمة أوبك، كلها عوامل أدت إلى الانخفاض الحاد في الإنفاق على مشاريع المنبع في الأعوام الأخيرة. لكن عدم اليقين في الطلب على النفط كان القاسم المشترك، وقد أدت جائحة كورونا إلى تفاقم هذا الخطر.
في الواقع، لم يتعاف الإنفاق العالمي على مشاريع المنبع منذ الانخفاض الأخير في الأسعار في 2015-2016. حيث بلغ إجمالي الإنفاق العالمي نحو 500 مليار دولار في عام 2019، بانخفاض نحو 300 مليار دولار عن ذروة 800 مليار دولار تقريبا في عام 2014، وفقا لوكالة الطاقة الدولية. وتتوقع الوكالة أن تنخفض نفقات عام 2020 بنسبة 33 في المائة، ما يضعها في حدود 338 مليار دولار، في حين يتوقع بعض المحللين انخفاضا آخر بنسبة 7 في المائة في عام 2021.
لا تبدو آفاق الاستثمار في مشاريع المنبع خارج مجموعة "أوبك +" أفضل بكثير بعد عام 2021. حيث إن تخفيض ميزانيات الاستكشاف، تزايد مخاطر المناخ والأصول العالقة يعني أنها قد لا تتعافى أبدا. على سبيل المثال، تعهدت شركة بريتش بتروليوم بعدم التنقيب عن النفط في دول جديدة بعد الآن، ما يسلط الضوء على تحول الصناعة في التفكير. في الواقع، يهدف الجزء الأكبر من استثمارات مشاريع المنبع الآن إلى الحفاظ على تدفق الحقول الحالية بالمعدلات الحالية وإبطاء معدلات تراجع الإنتاج الطبيعيNatural Decline rate. فقط الحقول الأكثر ربحية تجذب رأس المال اليوم. تقتصر المشاريع الجديدة الكبيرة إلى حد كبير على النرويج والبرازيل وغيانا. لكن قد يفاجأ النفط الصخري الأمريكي الأسواق مرة أخرى بالاتجاه الصعودي إذا ارتفعت الأسعار أكثر.
على أي حال، من الصعب تصور عجز في العرض الآن، حيث لا يزال الوباء يضغط على الطلب، وقلصت مجموعة "أوبك +" نحو 7.8 مليون برميل يوميا من الإنتاج لتحقيق التوازن في الأسواق. ومن المتوقع أن تتمكن المجموعة هذا العام من إضافة نحو 700 ألف برميل في اليوم وخفض مخزونات بمعدل 1.5 مليون برميل في اليوم. عموما، مع توقع ارتفاع الطلب بمقدار 5.2 مليون برميل في اليوم في عام 2021، وإضافة مليون برميل في اليوم من خارج مجموعة "أوبك +"، سيكون للمجموعة فرصة لإضافة 700 ألف برميل في اليوم.
مع ذلك، كانت وكالة الطاقة الدولية ومنظمة أوبك قلقين من ضعف مستويات الاستثمار في مشاريع المنبع في عام 2018، قبل الوباء وعندما كان النفط الصخري الأمريكي مزدهرا، حيث حقق نموا سنويا في حينها بلغ نحو مليون برميل في اليوم. حتى مع كل الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى مجموعة "أوبك +" والمخزونات الكبيرة، يقول بعض المحللين: إن عجزا كبيرا في العرض أمر لا مفر منه، والسؤال الوحيد هو حجمه. تعتقد كل من الوكالة و"أوبك" أنه ستكون هناك حاجة إلى 27 مليون إلى 30 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2022 لسد الفجوة بين الانخفاضات المتوقعة نتيجة تراجع الإنتاج الطبيعي والطلب. يقفز هذا الرقم إلى 68 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2030. ويفترض كلا التقديرين حدوث انتعاش متواضع في الطلب، أقل من المتوسط التاريخي البالغ 1.2 مليون برميل في اليوم سنويا.
في هذا الجانب أيضا، قال منتدى الطاقة الدولي IEF ومقره المملكة، إنه يجب أن يرتفع الإنفاق الرأسمالي في قطاع التنقيب والإنتاج على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة بنسبة 25 في المائة سنويا من مستويات 2020 لدرء أزمة في الإمدادات ويتطلب توفير مبالغ أكبر بكثير بحلول نهاية العقد لضمان إنتاج كاف لضمان استقرار السوق. كما تعتقد شركة الاستشارات Deloitte أن الصناعة يجب أن تستثمر أكثر من 525 مليار دولار سنويا لمجرد مواكبة نمو الاستهلاك السنوي وتعويض تراجع إنتاج الحقول الطبيعي الذي يراوح بين 6 و7 في المائة. لقد أظهر استطلاع أجرته شركة Deloitte للمديرين التنفيذيين في مجال الطاقة أن 33 في المائة يرون ارتفاع مخاطر حدوث أزمة في الإمداد خلال الأعوام الخمسة المقبلة.
بالطبع، يتوقف كثير على تعافي الطلب ما بعد جائحة كورونا. بسبب التحول المتسارع الذي يشهده نظام الطاقة، هذه ليست دورة سوق عادية. في الواقع، إذا حدثت أزمة وارتفاع في الأسعار، فقد يؤدي ذلك إلى الإضرار بآفاق الصناعة على المدى الطويل في حالة استجابة صانعي السياسات والمستهلكين بالابتعاد عن النفط بشكل أسرع.
يعتقد معظم الخبراء، بما في ذلك وكالة الطاقة الدولية، أن الطلب على النفط سيعود إلى مستويات ما قبل الجائحة البالغة 100 مليون برميل في اليوم في الإطار الزمني 2022-2023 ثم يستأنف النمو المتواضع فقط قبل أن يبلغ ذروته في وقت لاحق من العقد أو نحو عام 2030. منظمة أوبك أكثر تفاؤلا في هذا الجانب، حيث تتوقع نحو عشرة ملايين برميل في اليوم من النمو الإضافي في الطلب حتى عام 2040. في حين أن السيناريو المرجعي business-as-usual لشركة بريتيش بتروليوم يتوقع أن الطلب ثابت على نطاق واسع عند نحو 100 مليون برميل في اليوم على مدار الـ 20 عاما المقبلة. لكن كما ناقشنا في مقال سابق أن عديدا من المحللين حذروا من أن تناقضات عدة شابت تقرير بريتيش بتروليوم لعام 2020 بشأن وصول الطلب العالمي إلى ذروته، خصوصا تلك المتعلقة بأثر التزايد المستمر لأعداد السيارات الكهربائية وتحسن معدلات كفاءة محركات البنزين والديزل في الطلب العالمي على النفط.
إلى جانب ضعف الطلب، هناك عوامل أخرى تعمل ضد حدوث عجز في الإمداد. حيث يأتي حاليا إنتاج أكبر من استثمار أقل بسبب خفض التكاليف ومكاسب الكفاءة. إن التركيز على المشاريع قصيرة الدورة، بقيادة النفط الصخري الأمريكي، يعني أيضا تقصير الجداول الزمنية للإنتاج الأول، قد تقلل الأسواق مرة أخرى من إمكانات النفط الصخري.
تستثمر الشركات أيضا بشكل أكبر في مشاريع أصغر بالقرب من البنية التحتية الحالية، ما يسمح للإنتاج بالوصول إلى السوق بشكل أسرع في حين أن معدلات تراجع الإنتاج الطبيعي قد تكون مبالغا فيها. على هذا النحو، يرى قليلون ارتفاعا كبيرا في الأسعار مثل عام 2008 أو عودة مطولة لأسعار النفط التي تزيد على 100 دولار. لكن منتدى الطاقة الدولي لا يزال يعتقد أنه ستكون هناك حاجة إلى استثمارات أكبر حتى لو كان نمو الطلب ضعيفا، حيث يقول: إن 51 مليون برميل في اليوم من الطاقات الإنتاجية الجديدة ستكون مطلوبة بحلول عام 2030 حتى لو بلغ الطلب ذروته في ذلك العام. يقر دانييل يرجين نائب رئيس IHS Markit بأن التخفيضات الرأسمالية كانت كبيرة جدا، لكنه يقول إن طبيعة الانتعاش الاقتصادي العالمي بعد جائحة كورونا ستحدد ما إذا كانت هناك أزمة أكثر من أي شيء آخر.
نقلا عن الاقتصادية