من العولمة إلى الأقلمة .. أنا وأخي على ابن عمي

24/11/2020 1
د. فواز العلمي

بعد ثمانية أعوام من المفاوضات الشاقة تم يوم الأحد الماضي التوقيع على أكبر اتفاق للتجارة الحرة على مستوى العالم، ليحمل اسم "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة"، ويضم 15 دولة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مكونة من مجموعة "آسيان" وعددها عشر دول، إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا. وتمثل هذه الدول ثلث سكان العالم ونحو 30 في المائة من إجمالي الاقتصاد العالمي.

هذا التكتل جاء ليعزز طموحات الصين الجيوسياسية الإقليمية ونفوذها العالمي في مواجهة الولايات المتحدة، التي انسحبت من اتفاقية "الشراكة عبر المحيط الهادئ" قبل عامين، وتبعتها الهند في العام الماضي لقلقها من منافسة المنتجات الصينية زهيدة الثمن التي سيفسح المجال أمامها لدخول الأسواق الهندية برسوم جمركية منخفضة ضمن التكتل.

ومن شأن هذا الاتفاق أن يخفض تكاليف تصدير المنتجات والخدمات إلى أي بلد ضمن التكتل دون الحاجة إلى الإيفاء بالمتطلبات المنفصلة لكل دولة. ويخضع هذا الاتفاق لأربع خطوات رئيسة، تبدأ بإنشاء اتحاد جمركي لإزالة أو تخفيض كل الرسوم الجمركية في قطاع السلع بين الدول الأعضاء في الاتفاقية مع تحديد الرسوم الجمركية الموحدة تجاه العالم الخارجي. وتأتي الخطوة الثانية لتكوين السوق المشتركة التي تؤدي إلى توحيد الالتزامات في قطاع الخدمات، مثل حرية انتقال العمالة ورؤوس الأموال بين الدول الأعضاء في الاتفاق. وفي الخطوة الثالثة تقوم دول الإقليم باتباع سياسة نقدية موحدة يتم فيها تنسيق السياسات المالية وإطلاق العملة الموحدة والبنك المركزي الواحد. وتنتهي الخطوة الرابعة بتكوين وحدة اقتصادية بين الدول داخل الاتفاق لتوحيد كل سياساتها الاقتصادية والتجارية والمالية والاستثمارية.

في العقدين الماضيين بدأ الشك في نيات مثل هذه الاتفاقات الإقليمية يساور عديدا من المنظمات الدولية، التي اتهمتها بأنها تسعى لتقويض أحكام النظام التجاري العالمي، وتحويل اتجاهاته من العولمة إلى الأقلمة. إلا أن تعثر المفاوضات التجارية متعددة الأطراف المطروحة منذ 20 عاما في أروقة منظمة التجارة العالمية، ومحاولة الدول الأعضاء في المنظمة لم شمل الأقاليم الواحدة المتجانسة، منحت الدول التي دخلت في مثل هذه الترتيبات الإقليمية الفرصة المثلى لممارسة تجارتهم البينية وتوفير معاملة أكثر تفضيلا لمواطنيهم من معاملة الدول الأخرى خارج هذه الترتيبات بموجب قواعد قانونية وأحكام نظامية بالغة التعقيد. وتعتمد جميع هذه الاتفاقات الإقليمية على نصوص المادة الـ 24 من اتفاقية "الجات" الخاصة بقطاع السلع، والمادة الخامسة من اتفاقية "الجاتس" الخاصة بقطاع الخدمات المشمولة بقواعد وأحكام إنشاء منظمة التجارة العالمية، التي تمنح الدول الأعضاء في اتفاقات التجارة الحرة الحق باستثناء مزاياها المتبادلة داخل الاتفاق من مبدأ حق الدولة الأولى بالرعاية.

ويعد الاتحاد الأوروبي المكون من 27 دولة أكثر التكتلات الاقتصادية نجاحا في مجال الأقلمة، حيث قفزت التجارة البينية للدول الأعضاء فيه من 40 في المائة في الستينيات إلى 75 في المائة في نهاية العام الماضي. أما تكتل أمريكا الشمالية المكون من أمريكا وكندا والمكسيك، فقد أنجز خطوات مهمة بعد إعادة هيكلته في العام الماضي لتصل مساهمته إلى 70 في المائة من حجم تجارته في قطاع الخدمات مع دول العالم الأخرى.

وكذلك تكتل دول مجموعة (ميركوسور) المكون من ست دول نامية في إقليم جنوب أمريكا، وهي: الأرجنتين، والبرازيل، وباراجواي، وأوروجواي، وتشيلي، وبوليفيا، التي أصبحت من أفضل التكتلات الاقتصادية المختصة في إزالة جميع العوائق الجمركية والكمية عن كل السلع المتبادلة بين هذه الدول. أما مجموعة الآسيان المكونة من عشر دول في إقليم جنوب شرق آسيا التي من ضمنها سنغافورة، فقد غدت من أفضل الترتيبات الإقليمية في تبادل المنافع، وقامت برفع مستوى هذا التكتل ليشمل الخدمات والاستثمار أيضا، وبهذا تصبح مجموعة الآسيان سوقا مشتركة مماثلة للسوق الأوروبية المشتركة.

تحتوي اتفاقية التجارة الحرة المبرمة بين مجموعة من الدول على أكثر من ألف صفحة قانونية وتشمل 21 فصلا وخمسة ملاحق. وتنضوي بنودها على عديد من المزايا المتبادلة بين الدول الأعضاء في هذه الاتفاقية، ومن أهمها: إزالة التعريفات الجمركية والعوائق غير الجمركية أمام واردات وصادرات التجارة البينية، وفتح قطاعات كل أنشطة الخدمات عامة، والخدمات المالية والاتصالات والتوزيع خاصة بمقدار أكبر مما التزمت به هذه الدول أمام الدول الأخرى في منظمة التجارة العالمية، وإلغاء جميع العوائق المؤثرة في التجارة والاستثمار مع حصول المستثمرين في دول الاتفاق على مزايا تفوق تلك الممنوحة للمستثمرين القادمين من دول أخرى، إلى جانب الموافقة على التزامات إضافية تحمي حقوق الملكية الفكرية وترفـع مستوى الشفافية الإدارية التنظيمية وتوفر السبل الكفيلة لتبادل المعلومات في المواصفات والمقاييس. ومن أهم الفوائد والمزايا التي ستحققها السوق المشتركة من هذه الترتيبات الإقليمية:

1. تحقيق أفضل استخدام للموارد الاقتصادية الإقليمية، يستهدف زيادة التبادل التجاري من سلع وخدمات بين دول اتفاقية مناطق التجارة الحرة، ضمن مزايا تفضيلية وتحت المظلة القانونية لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية.

2. تحديث الأنظمة وتوحيدها لمواجهة الترتيبات الإقليمية الأخرى بهدف رفع مستوى التنسيق بين الدول داخل الاتفاق، ما يؤدي إلى استغلال أفضل للمزايا النسبية التي تتمتع بها الدول داخل الاتفاق.

3. بناء القواعد الاقتصادية المتجانسة والمتكاملة في دول الترتيب الإقليمي لاستقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر، ونقل التقنية الصناعية اليها، وتعزيز قدراتها على حماية حقوق الملكية الفكرية.

بنهاية العام الجاري سيرتفع عدد الاتفاقات الإقليمية للتجارة الحرة إلى 235 اتفاقا، استأثر الاتحاد الأوروبي بنصيب الأسد منها، وتأتي دول شرق آسيا في المرتبة الثانية، تليها إسرائيل ثم الولايات المتحدة، حيث تآلفت مصالح هذه الدول تحت لواء التجارة والاقتصاد رغم تباين أديانهم ولغاتهم وأنظمتهم، لتنتقل من مفهوم العولمة إلى بوتقة الأقلمة، وتطبق المقولة الشهيرة: "أنا وأخي على ابن عمي".

 

نقلا عن الاقتصادية