الجمل: لنهتم به في صحته قبل مرضه

13/10/2020 0
خالد بن محمد العبودي

تدشين مستشفى للإبل بواسطة مستثمرين من القطاع الخاص كان خبراً سعيداً للمهتمين بشأن الإبل في المملكة والعالم.

لا شك أن الجمل رمز من رموز هذا الوطن وساهم في وصل أراضي الوطن بالعالم عندما كان وسيلة انتقال ووسيلة لوجستية تشحن بواسطتها البضائع والسلع التي تنتج محلياً إلى الخارج ويستخدم في إيصال ما ينتج منها في الخارج إلى أراضينا.

والأهم من ذلك هو أنه كان الأمن الغذائي الأبرز على مستوي تزويد السكان المحليين بالبروتين الحيواني لاحتياجاتهم الغذائية الضرورية. ناهيك عن دوره في الزراعة والاعتماد عليه مكائن متحركة لأغراض الحرث واستخراج المياه من الآبار، فضلا عن مساهمته في أغراض الكساء والغطاء والوعاء والدواء.

ولو عدنا للوراء لعصور غابرة فلولا الله ثم الجمل لم يكن ليكون هناك طريق حرير ولا طريق بخور ولا أي طريق تجاري آخر.

إن دور الجمل في حياتنا بدأ يتقلص بعد تطور الحياة في بلدنا ولَم يعد عنصر إنتاج رئيسا استطاع أن يدمج الاقتصادات المنزوية والهامشية بالاقتصاد الإقليمي والعالمي، فكان أحد اهم أسباب العولمة لاقتصاد ما قبل النفط عندما كان وسيلة نقل وشحن، كما أنه لم يعد عنصراً إنتاجياً زراعياً، وفقد دوره كعنصر غذائي رئيس، وبقي أحد العناصر المتاحة التي لا يزال لها محبيها وإن كان الجيل الجديد يعزف عنها لأنه لا يعرفها.

إن قيمة الجمل هي ليست بموروثه فقط، ولذا من الجميل أن نحتفي به وأن يكون له مؤسسات ترعاه ومهرجانات تعتني به، وسباقات ترفع من درجة الحماس له، ومسابقات تتغنى بجماله.

إن ذلك كله كفيل أن يبقيه بالذاكرة وأن يجعلنا أوفياء له مذكرين الأجيال الجديدة به، فلا يختفي من الذاكرة السعودية.

إن هذا كله مع أهميته ليس كافياً لأنه قد يبقي صلتنا بالجمل وماضيه ولكنه لا يجعله بالضرورة متصلاً بحياة الفرد منا اتصالاً وثيقاً.

لا نريد للجمل أن يكون فقط مجرد ذكرى لزمن جميل مثل الخيول التي استخدمها المستوطنون في أمريكا الشمالية ووجدت تمجيداً من السينما الأمريكية من خلال بطولات وصولات رعاة البقر، إلا أنها بعد ذلك آلت إلى النسيان فقد كان لها دور كبير في التوسع الأمريكي نحو الغرب باعتبارها أداة نقل وشحن وجر للعربات وكذلك أداة توطين ساعدت المجتمعات الجديدة على الاهتمام بأعداد متزايدة من الماشية.

ومع ذلك فلم تكن بذات الأهمية حيث لم تكن مصدراً للبروتين ولا أمناً غذائياً كما هو الجمل لدينا ولذا فإن تضاؤل دورها ليس بالأمر المهم.

من جانب آخر، يبقي للجمل أدواراً مهمة يفترض منا أن نعيد اكتشافها، فهو ليس حيواناً مستورداً وإنما هو من هذه الأرض ولذا فهو لن يذهب بعيداً إن أردنا له ان يبقي وان نستفيد منه، كما أنه أكثر صبراً من كل حيوانات الأرض المستأنسة على العيش في بيئتنا ولذا هو رمز للاستدامة التي نبحث عنها في مواردنا.

لقد لعب الجمل مع النخلة دوراً هاماً في إبقاء الحياة ممكنة في منطقة صعبة جغرافيا ومناخياً حيث تمكنا من إمداد أجدادنا بمكونات غذائية تكاد تكون متكاملة بحيث كانت الوجبة الأشهر وهي التمر واللبن عماد الحياة خاصة في غير أوقات مواسم الحصاد للمحاصيل الأخرى.

وقد جاء النفط لاحقاً ليسحب البساط من تحت أقدامهما ويشعرهما أنها لو دامت لغيرهما لم تكن لتصل إليهما متناسياً أن الجمل والنخلة من هذه الأرض وأن عجائبهما لا تنتهي.

حين نطالب بإعادة اكتشاف حيواناً أمرناً القرآن الكريم بالتدبر في خلقه، وحين نعود إلى النخلة التي استغنينا عنها بغيرها متناسين أنها شجرة مباركة، فإننا نفعل ذلك لأننا على يقين أنه عندما ولى وقت اعتماد الإنسان عليهما فإن النخلة والجمل فقدا مرحلياً أهميتهما ونقول مرحلياً لأننا في مرحلة البحث عن اقتصاد ما بعد النفط نريد أن نصل إلى نفط ما بعد النفط.

بمعني أن تنويع مصادر الدخل بعيداً عن الاعتمادية شبة الكاملة على النفط يحتم علينا أن نبحث عن نفط ما بعد النفط، أي عن نفط آخر إلى جانب النفط الذي نعرفه.

وهنا فان النخلة ربما كانت أوفر حظا من الجمل فهناك رؤية واضحة لدورها في المرحلة القادمة ورغبة صادقة بإعادة الاهتمام بها ليس كآمن غذائي فحسب وانما كمصدر دخل محتمل باعتبار أن التمور منتج جذاب يلقى قبولاً دولياً متزايداً، كما توضح أرقام التبادل التجاري الدولي في العشر السنوات الأخيرة.

ولكن لماذا نطالب أن يكون للجمل نفس الحظوة، وهل بالإمكان أن يكون له قيمة اقتصادية لأن ما نعرفه عنه لا يبرر أن نعطيه تلك القيمة.

والجواب اننا مع الأسف لا نعرف الكثير عن الجمل حتى ننفي قيمته الاقتصادية المحتملة إلا ما اكتشفه أجددنا عنه واستفادوا من تلك الاكتشافات على محدوديتها.

ما حملني في الواقع لتخصيص هذه المساحة للجمل ما تقوم به بعض الشركات الأسترالية في هذا المضمار.

الجمل في أستراليا كان حيواناً مستورداً أتى به الإنجليز من شبة القارة الهندية للاستفادة منه في مد خطوط السكك الحديدية والتي كانت إنكلترا تسعي إلى ربط أستراليا ببعضها البعض.

وبعد انتهاء مهمته فقد تم اطلاقه في البراري والصحاري الأسترالية حيث أصبح مع مرور الوقت حيواناً برياً يعيش مع غيره من الحيوانات ويقاسمها المناطق الشاسعة من القارة.

مع تعاقب الزمن تزايدت أعداده ومع تزايد المناطق المزروعة في أستراليا ومع موجات جفاف أصابت الكثير من المناطق، أصبحت الجمال تهدد الغطاء النباتي والمناطق المزروعة مما حدا بالحكومة الأسترالية إلى السماح بصيده كحيوان بري كمحاولة لتقليل أعداده.

في نفس الوقت بدأت الشركات الأسترالية في النظر إليه كعنصر إنتاجي محتمل خاصة أن بعضها ومن خلال دراسة الجمل وما يكتب عنه بدت مهتمة بالنواحي العلاجية للمنتجات المصنعة من لحوم وألبان الجمال.

لا زلت أذكر لقاء مع إحدى الشركات التي استأنست الجمال هناك وبدأت تجري تجاربها عليه بعد الاطلاع على خصائص حليب النوق بأنه يخلو من عناصر تسبب الحساسية التي تتصف بها ألبان حيوانات أخري كالبقر على سبيل المثال.

وقد خلصت تلك الشركة إلى أن تلك الخاصية مهمة في تقديم منتج لا يسبب الحساسية لمتناوليها حيث أن اللاكتوز في حليب النوق أقل من مستوياته في حليب البقر، واكتشفت هذه الشركات خصائص أخرى فمثلاً نسبة فيتامين سي في حليب النوق هي ثلاثة أضعاف نسبته في حليب البقر، ونسبة الحديد في حليبها هي عشرة أضعاف نسبتها في حليب البقر، ناهيك أن الجمال أعلى بالأحماض الدهنية غير المشبعة فضلاً على أنها أيضاً أعلي بمحتوي فيتامين بي.

ولذا فإن ما ينتج من الجمل هو أسهل هضماً وأكثر قيمة غذائية.

كما اكتشفوا لديه خصائص أخرى لا توجد لدى أي حيوان آخر على وجه البسيطة مثل الآثار الإيجابية على مستوي السكر في الدم.

هذه الاكتشافات كانت عاملاً مشجعاً لعدد من الشركات الأسترالية للمضي قدما في طرح منتجات عدة إلى جانب الحليب والألبان مثل الأجبان والزبدة والآيسكريم.

بل إن الخصائص العلاجية التي أثبتتها الدراسات البحثية قادت إلى طرح منتجات أخرى للعناية بالبشرة والشعر تعتبر ذات خواص منعمة وعلاجية لبعض أمراض الجلد.

ما سمعته من بعض تلك الشركات أن ذلك كله لم يكن ممكناً إلا بعد أبحاث طويلة حول الغذاء المناسب للجمل ليمكن لتلك المنتجات أن يكون لها المفعول المنتظر.

وهذه التغذية الخاصة هي ما تعتبره الشركات من أسرار المهنة التي تحافظ عليها كقيمة عالية لها ولمنتجاتها.

غيرنا اكتشف شيء من خصائص هذا الحيوان العجيب وإن كان لم يكن اكتشافاً خالصاً لأن أجدادنا عرفوا بعض هذه الخصائص وباحثونا تعرفوا معملياً على بعضها، ولكن تحويل هذه العناصر المهمة إلى منتجات تجارية وتسويقها هو ما نفتقد إليه مع الأسف.

بإمكاننا أن نفعل مثل فعل الأستراليون ونبدأ طريقنا من الصفر ولكن أيضاً بإمكاننا ان نبدأ من حيث انتهوا من خلال التعاون مع إحدى الشركات هناك والاستفادة من خبراتها الفنية ومن ثم نقل تلك الخبرة إلى المملكة من خلال إنشاء مزارع تربية متخصصة يكون بالإمكان أن تطرح منتجاتها ليس محلياً فحسب؛ وإنما عالمياً باعتبار أن الطلب العالمي على تلك المنتجات في تزايد.

لنوغل قليلاَ أو إن شئت كثيراً في الخيال، هل بالإمكان أن تكون المملكة هي الدولة العالمية الأولى في تصدير لحوم ومنتجات الجمل، أزعم أن ذلك ممكناً لو توصلنا إلى التغذية المناسبة للجمل واستطعنا تأمينها من الداخل أو الخارج ومن يدري قد نصبح مثل البرازيل بالنسبة لتصدير لحوم ومنتجات الأبقار.

وكما ذكرنا فإن الجمل والنخلة يمكن أن يكونا عوامل استدامة مثلهما مثل جبل طويق رمز صمود إنسان هذه الأرض واستدامة الحياة فيه.

أما النفط فعلي تعدد استخداماته وكثرة أساليب الاستفادة فهو يخفق في امتحان الاستدامة حيث أن مآله للنضوب، وهنا وهذا هو مربط الفرس أو لنقل مربط الجمل، نكون قد أعدنا اكتشاف نفط ما بعد النفط.

 
 
خاص_الفابيتا