يواجه قطاع الإنتاج في صناعة النفط والغاز في الولايات المتحدة مخاطر عدة، منها خسارة نحو 200 ألف وظيفة خلال فترة الستة إلى الاثني عشر شهراً المقبلة. كما يتضح أن الصناعة ستواجه مرحلة من الانكماش خلال الفترة الطويلة المدى. وقد توصل إلى هذه الاستنتاجات الباحثان براد هاندلر ومورغان بازيليان اللذان نشرت دراستهما في شهر مايو (أيار) الماضي في ورقة لمعهد باين للسياسات العامة التابع لمدرسة كولوادو للمعادن، هذه الجامعة العريقة التي تعد واحدة من أهم الجامعات العالمية المتخصصة في الدراسات البترولية. وقد اعتمدت الدراسة في بحثها واستنتاجاتها على تجربة تأثير انهيار الأسواق خلال العامين 2015-2016، وكيفية نمو الصناعة البترولية الأميركية خلال السنوات الماضية. وتكمن أهمية استنتاجات الدراسة في تبيان مدى تأثر صناعة إنتاج النفط بعد انهيار الأسواق الحالي، وما صاحبه من كساد الأسواق بسبب جائحة «كوفيد-19».
وتفيد الدراسة بأن جائحة «كوفيد-19» قد أضفت عبئاً اقتصادياً ثقيلاً إضافياً على الانهيار النفطي لعام 2020. وسيترك هذان التطوران المهمان آثارهما على الاقتصاد الأميركي، المحلي والعام، وأيضاً على المجتمعات المحلية المعتمدة على صناعة إنتاج النفط والغاز. كما أن هناك عوارض سلبية أخرى ستلحق بالصناعة، إذ سيشكل قطاع الإنتاج النفطي أبطأ قطاع اقتصادي في استرداد عافيته. وسيتقلص الإنفاق وإمكانية إعادة التوظيف في هذا القطاع على المدى الطويل. وستواجه الولايات والمناطق الأميركية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بهذه الصناعة صعوبات عدة عند عودة الصناعة النفطية إلى حيويتها ثانية، تتمثل بمعدلات البطالة العالية، وانخفاض الريع النفطي.
إن صناعة إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة تدعم بشكل كبير اقتصادات عدد من الولايات الأميركية. وتقدر دائرة الإحصاءات في وزارة العمل الأميركية أن عدد الموظفين والعمال في شركات الحفر والخدمات الهندسية (قطاع الإنتاج النفطي) استوعب في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2019 نحو 464 ألف موظف، وشكل نوع العمالة المتخصصة هذه في بعض الولايات نحو 5 في المائة من مجمل الأيدي العاملة في الولاية، ومن بين هذه الولايات شمال داكوتا ووايومنغ. ومن الطبيعي أن الخسائر للولايات المعنية لا تشمل فقط المصاريف والضرائب المحلية للعائلات ذات العلاقة، ولكن أيضاً ضرائب القيمة المضافة والضرائب المتعددة على القطاع النفطي والغازي.
وكما هو معروف، فإن ولاية تكساس هي الأكبر بترولياً في الولايات المتحدة، وقد بلغ مجمل حجم الريع النفطي الذي حصلت عليه الحكومة الفيدرالية من قطاع الإنتاج النفطي والغازي لولاية تكساس في العام المالي لعام 2019 نحو 16.3 مليار دولار، مما يشكل في الوقت نفسه نحو 7 في المائة من مجمل الدخل المالي الذي حصلته الولاية من هذا القطاع النفطي. كما أن هناك ولاية ألاسكا التي بلغ استقطاع الحكومة الفيدرالية من دخلها البترولي في العام المالي لعام 2019 نحو 1.1 مليار دولار، مما شكل بدوره نحو 70 في المائة من دخل الولاية نفسها. وهناك أيضاً ولاية وايومنغ التي استقطعت الحكومة الفيدرالية من دخلها النفطي نحو 2.2 مليار دولار في العام المالي لعام 2017، مما يعادل نحو 52 في المائة من ريع الولاية (ويشمل هذا المبلغ الضرائبي على صناعة الفحم الحجري والمعادن). وهناك ولاية نورث داكوتا التي استقطعت الحكومة الفيدرالية ضرائب على القطاع النفطي بها بنحو 5.1 مليار دولار، مما شكل نسبة 45 في المائة من دخل الولاية في العام المالي لعام 2017.
وتشير الدراسات عن التجربة الأميركية السابقة لفترة تدهور الأسواق 2015-2016 إلى أن مرحلة انتعاش قطاع الإنتاج النفطي والغازي الأميركي التي تلت انهيار الأسواق عندئذ تبعتها مرحلة ازدياد معدل الإنتاج من جهة، إلا أن عدد العمالة لم يعد إلى معدله السابق. والسبب في ذلك هو تحسن تقنية الحفر والتكسير الهيدروليكي لآبار النفط الصخري التي استغنت عن عدد كبير من الأيدي العاملة، إذ تدل المعلومات على أن معدل عدد العمال في قطاع الإنتاج النفطي والغازي في شهر يناير (كانون الثاني) 2019 كان نحو 487.200 عامل، مما يعني 20 في المائة أعلى من المعدل في 2016، ولكن نحو 24 في المائة أقل من المعدل القياسي لعدد العمال في قطاع الإنتاج النفطي والغازي في الولايات المتحدة.
وقد أغلقت بعض شركات الإنتاج أبوابها نظراً للصعوبات المالية التي واجهتها في أثناء كساد الأسواق خلال فترة 2015-2016، وحاولت بعض الشركات تقليص نشاطاتها نظراً للديون المصرفية المترتبة عليها. كما أن سياسة التباعد الاجتماعي الواجب اتباعها بسبب جائحة «كوفيد-19» ستترك آثاراً إضافية على طرق العمل المعتادة. فمن الملاحظ أن أرباح الشركات ستتراجع، رغم زيادة الإنتاج، وذلك بسبب هبوط سعر النفط والغاز إلى مستويات أقل مما كانت عليه قبل جائحة «كوفيد-19».
ويتوقع أن تعاني شركات النفط من هذه العوامل السلبية حتى السنة المالية لعام 2021، إذ إن نحو 1.3 مليون مواطن في ولاية تكساس قد تم الاستغناء عن عمله بنهاية شهر أبريل (نيسان) 2020. وهذا العدد من العاطلين عن العمل في 2020 أعلى بكثير من عدد العاطلين عن العمل خلال تدهور الأسواق في 2015-2016. ويعني هذا أن استعادة هؤلاء العمال لوظائفهم السابقة سيأخذ وقتاً أطول بعد هذه المرحلة. بالذات، إذا وضعنا في الحسبان أن معدل الإنتاج النفطي في الولايات المتحدة سجل معدل 12.2 مليون برميل في اليوم الواحد، وإنتاج الغاز الطبيعي نحو 111.5 مليون قدم مكعب يومياً في عام 2019، مقابل إنتاج نفطي نحو 8.8 مليون برميل في اليوم، و86.0 مليون قدم مكعب يومياً من الغاز الطبيعي في عام 2014. وهذه الأرقام تدل بكل وضوح على زيادة إنتاج النفط والغاز بين عام 2014 (قبيل انهيار الأسواق) و2019 (بعد الانهيار).
وتلخص استنتاجات الدراسة أن العمالة في قطاع إنتاج النفط والغاز الأميركي لن تعود إلى كامل عهدها بسرعة لأسباب متعددة، منها: عدم اليقين فيما يتعلق بانتعاش الأسعار واستقرارها على معدلات أعلى مما هي عليه في أثناء الجائحة، واستمرار الصعوبات في الحصول على التمويل اللازم، بالذات بعد الضائقة الاقتصادية الناتجة عن الجائحة، ومحاولات الدمج بين بعض الشركات، مما يعني التركيز في العمل وتقليص الأيدي العاملة. ومن المحتمل جداً -كما تدل التجارب السابقة بعد انهيار الأسواق- أن تبادر الشركات إلى تبني نهج تحسين الإنتاجية في وقت تحسين أداء العمالة وزيادة الإنتاج نفسه؛ وهي جميعها خطوات يجب على الشركات تبنيها لدعم الموازنة والأرباح بعد الضربتين الاقتصاديتين اللتين طالتا الاقتصاد العالمي، ومعه طبعاً الشركات النفطية.
نقلا عن الشرق الأوسط