قالت العرب قديما: "رب ضارة نافعة"، وذاك هو أيضا ما تقوله لنا الأزمة العالمية الراهنة المتمثلة في جائحة فيروس كورونا المستجد «كوفيد - 19»، في عديد من نشاطات حياتنا المتنوعة عموما، في مقدمتها سوق العمل المحلية التي قضت أكثر من ثلاثة عقود ماضية، تصاعد خلالها عاما بعد عام اعتمادها المفرط على العمالة الوافدة، مقابل اعتمادها بدرجة متأخرة على الموارد البشرية الوطنية. وعلى الرغم من إقرار عديد من برامج التوطين المختلفة قبل نحو عقد زمني، وإجراء كثير من التعديلات عليها طول تلك الفترة، إلا أن النتائج لم تصل إلى المستوى المأمول واللازم لخفض معدلات البطالة بين المواطنين والمواطنات، ولا إلى إحداث الخفض الملموس على مستوى الاعتماد على العمالة الوافدة في القطاع الخاص، رغم ارتفاع معدل التوطين في القطاع الخاص من 12.9 في المائة بنهاية 2000 إلى 20.9 في المائة بنهاية 2019، إذ ارتفع خلال الفترة نفسها معدل البطالة بين المواطنين من 8.1 في المائة بنهاية 2000 و12.3 في المائة بنهاية 2019.
لا تعد الصدمة التي تسبب فيها انتشار فيروس كورونا المستجد «كوفيد - 19» تجاه عديد من نشاطات وقطاعات الاقتصاد سلبية بالكامل، في مقدمتها سوق العمل المحلية في القطاع الخاص تحديدا. ففي جزء مهم منها ما يعد "صدمة إفاقة" إيجابية، سيوفر الوقوف عندها طويلا والعمل مجددا على إعادة تقييم نتائجها، ومن ثم توظيف تلك النتائج المهمة في اتجاه تصحيح كثير من أوجه القصور والخلل، وما تسبب وجودها فيه من استدامة أو تصاعد التحديات التي تواجهها العمالة الوطنية في سوق العمل طوال تلك الفترة.
لم يتوقف ما كشفته صدمة انتشار ذلك الفيروس عند مجرد زيادة الاعتماد على العمالة الوافدة؛ بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير حينما كشفت أيضا عن المخاطر العالية لوجود مئات الآلاف من العمالة المخالفة والمتستر عليها، وهو التحدي الكبير الذي بدأت جهود محاربته بصورة جادة قبل أقل من عام من تاريخه. بناء عليه؛ يتوقع أن تشهد سوق العمل المحلية بدءا من الفترة الراهنة، إجراءات تصحيح جذرية وحازمة واسعة النطاق وغير مسبوقة، تستهدف إعادة ترتيب عميقة جدا للسوق، والقضاء قدر الإمكان على أغلب - إن لم يكن كل - التشوهات الكامنة في أحشاء سوق العمل المحلية، يؤمل أن تسفر نتائجها عن انفتاح كثير من فرص العمل المجدية أمام الموارد البشرية الوطنية.
قد تشهد سوق العمل المحلية خلال الأجل القصير ارتفاعا في معدل البطالة، وهو أمر متوقع نظرا إلى الصعوبات الكبيرة التي اصطدمت بها منشآت القطاع الخاص، كما سيكون الارتفاع في معدل البطالة أدنى بكثير مما كان متوقعا بفضل من الله، ثم بفضل المبادرة السخية جدا للدولة - أيدها الله - الممثلة في الأمر الملكي الكريم الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين - أيده الله -، القاضي باستثناء العاملين السعوديين في منشآت القطاع الخاص المتأثرة بالتداعيات الراهنة لانتشار الجائحة العالمية «كوفيد - 19» من المواد "الثامنة، العاشرة، الـ14" من نظام التأمين ضد التعطل عن العمل، ومنح الحق لصاحب العمل عوضا عن إنهاء عقد العامل السعودي أن يتقدم إلى المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بطلب صرف تعويض شهري للعاملين لديه بنسبة 60 في المائة من الأجر المسجل في التأمينات الاجتماعية لمدة ثلاثة أشهر، بحد أقصى تسعة آلاف ريال شهريا، وبقيمة إجمالية تصل إلى تسعة مليارات ريال.
إن عدد المؤهلين للاستفادة من التعويض يتجاوز 1.2 مليون عامل سعودي، على الرغم مما شهدته بيئة سوق العمل المحلية خلال الفترة الوجيزة الماضية من اضطرابات شديدة، شأنها شأن بقية أسواق العمل الأخرى حول العالم، إلا أنها أظهرت أيضا قدرتها على استيعاب كثير من منهجيات إدارة الأعمال وتسييرها؛ كالعمل عن بعد، وإدارة وتكوين فرق عمل الطوارئ، كانت تلك المنهجيات إلى وقت قريب جدا أبعد ما تكون عن مجرد التفكير فيها، دع عنك إقرار العمل بها خلال هذه الفترة القصيرة جدا. يتوقع أن يلعب هذا البعد الجديد لتيسير الأعمال وتنفيذها دورا كبيرا فيما بعد انجلاء هذا الفيروس، كما سيؤدي الانكماش المتوقع لعديد من أنشطة الاقتصاد خلال العامين المقبلين على أبعد تقدير، إلى قيام منشآت القطاع الخاص بكثير من عمليات التكيف مع تلك المتغيرات الاقتصادية، في مقدمتها تقليص كثير من نفقاتها التشغيلية، خاصة تلك المتعلقة بالعمالة لديها التي تقتضي تدخل الأجهزة الحكومية المعنية بأن تتم تلك العمليات بصورة لا تتسبب في إنهاء عقود العمالة الوطنية، وتتركز بشكل أكبر على عقود العمالة الوافدة، ويتم تحفيز تلك المنشآت "ماديا" على إيجاد مزيد من فرص العمل أمام الموارد البشرية الوطنية، خاصة مع بدء الاعتماد بصورة أكبر على أنماط جديدة من منهجيات العمل، كالعمل عن بعد وإدخال الأتمتة إلى كثير من خطوط الإنتاج وأداء الأعمال والخدمات المقدمة.
كما ستكون الفرص مواتية جدا للعمل على إعادة تصميم وابتكار عديد من برامج التوطين، التي أصبحت المرحلة الراهنة تقتضيها بدرجة قصوى، والتحرك بخطوات تسبق كثيرا أي تطورات محتملة على أرض الواقع، والانتقال من آلية التعامل مع المتغيرات الطارئة كرد فعل، إلى آلية عمل أكثر جرأة واستباقية، تقتنص الفرص قبل فقدانها، وتعمل أيضا على تحويل التحديات والمخاطر إلى ممكنات وفرص يجب استثمارها واقتناصها، وكل ذلك ممكن - بمشيئة الله تعالى - في ظل الموارد والقدرات المتوافرة لدى الاقتصاد الوطني، وفي ظل التحولات الكبيرة المتوقع أن يشهدها الاقتصاد العالمي فيما بعد انتهاء الأزمة العالمية الراهنة.
نقلا عن الاقتصادية