يحظى موضوع التعاون وبدرجة أعلى التكامل الاقتصادي بين أعضاء مجلس التعاون الخليجي بنصيب وافر من البحث والمناقشات. وآخرها ما جرى في قمة مجلس التعاون السنوية، التي عقدت في الرياض الشهر الماضي. ولا عجب، فالتعاون بين دول المجلس في شتى المجالات هو أساس قيامه، ولذا اختيرت كلمة التعاون في مسماه.
معروف أن دول مجلس التعاون الخليجي تتبع سياسة نقدية قائمة على تثبيت fixing صارم لسعر الصرف، بالدولار، ومعه عملات رئيسة أخرى في الدينار الكويتي. وقد مكن هذا الربط من استيراد السياسة النقدية لأمريكا المستقرة نسبيا فترة طويلة من الزمن. ولكن، ما من سياسة اقتصادية إلا ولها آثار مرغوب فيها وآثار غير مرغوب فيها، وقوة الآثار تتغير بتغير الزمان أو المكان. وطبيعة المناقشة في علم الاقتصاد تتطلب النظر إلى كلا الأمرين، ولذا كان علم الاقتصاد غير محبب. وهذا مفهوم، فقد خلق الله الإنسان عجولا، ونحن البشر نحب الدنيا ومتاعها، نميل إلى الأنانية، وما يتوافق مع رغباتنا، ولا نحب وصف الواقع المعاشي بما يخالف ما تشتهي النفوس. طبعا دول المجلس ليست متماثلة في مدى تأثرها بتغير سعر صرف الدولار بعملات الدول الكبرى اقتصاديا، وفي مستوى اعتماد اقتصاداتها على إيرادات صادرات النفط والغاز. ووجود هذه الاختلافات صعب من عملية قيام عملة خليجية موحدة.
تهدف البنوك المركزية الخليجية إجمالا إلى استقرار سعر الصرف واستقرار مستوى الأسعار. وهناك أهداف أخرى غير مباشرة كتحقيق النمو الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل. وتثبيت سعر الصرف يساعد مساعدة قوية على تحقيق هذه الأهداف. لكن الحصول على سعر صرف مستقر عبر السنين لم يأت من دون ثمن. مثلا، كان الريال مسعرا بأعلى من قيمته سنوات انخفاض أسعار النفط كثيرا من أواسط عقد الثمانينيات وإلى مطلع هذا القرن الميلادي. ومن النتائج غير المرغوبة لارتفاع سعر صرف الريال انخفاض الإيرادات النفطية الحكومية بالريال، ومن ثم خفض الإنفاق الحكومي، وخاصة على المشاريع وصناديق التنمية. وكل هذا انعكس سلبا على النمو الاقتصادي. وقد خلصت مناقشات ودراسات عديدة مستخدمة أدوات اقتصاد قياسي لسلسلة زمنية طويلة إلى أن التثبيت الصارم تميز عن أنظمة أسعار الصرف الأخرى بمعدلات تضخم أقل وفي الوقت نفسه معدل نمو اقتصادي أقل مما يمكن تحقيقه. ومتوقع أن تسهم برامج الرؤية في خفض قوة هذه المشكلة.
تقلب أسعار النفط ومشكلة إدارة أسعار الصرف
يتميز النفط اقتصاديا بمروره بدورات كبيرة من التقلبات في الأسعار. وجود تلك الدورات الحادة في أسعار وإيرادات مورد غير متجدد، يعتمد عليه الاقتصاد عامة، والإيرادات الحكومية خاصة، يتسبب في وجود صعوبات ومتاعب كبيرة في سياسات إدارة سعر الصرف، وخاصة على المدى البعيد. ذلك أن هذه الظروف تؤثر في حركة سعر الصرف الحقيقي. واستقرار سعر الصرف الحقيقي له دور محوري في استقرار الاقتصاد وفي النمو الاقتصادي، نظرا لتعلقه بحركة رأس المال مع العالم الخارجي والمزايا النسبية في التجارة الدولية، وخاصة على المدى البعيد. وباختصار ينظر إلى سعر الصرف الحقيقي على أنه مقياس للتنافسية، ولذا يتطلب رسم السياسات الاقتصادية الكلية واستراتيجيات التنمية في الدول النامية النظر بدرجة أكبر إلى سعر الصرف الحقيقي. وللفائدة، سعر الصرف الحقيقي هو السعر الذي يقيس أسعار سلع وخدمات في دولة بالنسبة للأسعار في دولة أخرى، أو مجموعة من الدول. وفي هذه الحالة يسمى سعر الصرف الحقيقي الفعال real effective exchange rate REER. ولذا يتكون سعر الصرف الحقيقي من جزأين: الأول سعر الصرف الاسمي، كالقول إن الريال يساوي 0.27 دولارا "27 سنتا" تقريبا، والثاني السعر النسبي بين دولتين "سلة أسعار في دولة مقسومة على سلة أسعار في دولة أو مجموعة دول أخرى"، وتوجد طرق كثيرة للتعبير عن السعر النسبي. وقد أشارت عدة أبحاث إلى أن كل زيادة في أسعار النفط الحقيقية "أي المعدلة بحيث تراعى فيها نسب التضخم" تقابلها زيادة في أسعار الصرف الحقيقية لعملات الدول المصدرة للنفط، وهذا ما يتفق مع نظرية أو فكرة القوة الشرائية Purchase Power Parity PPP. وتتفاوت الأبحاث في تقدير تأثير زيادة أسعار النفط في أسعار الصرف الحقيقية.
سعر الصرف وتنويع مصادر الدخل
من معضلات سعر الصرف للدول الناهضة اقتصاديا أنها حين تتطلع إلى نمو اقتصادي راسخ، فإن ذلك يتطلب قدرات تنافسية خاصة مع زيادة التنافسية عالميا. ويعزز القدرات التنافسية كون العملة مقومة بأقل من قيمتها، ما لا يصب في مصلحة الاستيراد. استهداف النمو الاقتصادي بعملة رخيصة نسبيا سياسة سارت عليها الصين وسارت عليها دول كثيرة، وهي سياسة مفيدة لنمو وتنويع مصادر الدخل، ولاكتساب القوة التنافسية في قطاعات السلع والخدمات القابلة لأن تستورد، خاصة مع شدة الاعتماد على الاستيراد. ولكن قد لا تستغل هذه التنافسية كما ينبغي، كأن توجد مشكلات تسويقية، أو تكتلات احتكارية محلية، أو مع استمرار وجود عوائق أمام الاستثمار. وباختصار، سعر الصرف المنخفض نسبيا عامل مهم للحصول على قوة تنافسية في مساعي نمو وتنويع مصادر الدخل لدول نامية، ولكنه ليس العامل الوحيد. بالمقابل، من الصعب استمرار سياسة سعر صرف منخفض كثيرا، لاقترانه بالتضخم.
نقلا عن الاقتصادية