آخر الدواء الكي مثل عربي مشهور. المثل يقر بأن الكي دواء، لكن محاولة استخدامه للعلاج تكون في الأخير. إن تيسر دواء آخر فلا داعي للكي، بل يترك. والسبب أن الكي فيه شيء من التعذيب بالنار، فلا يصار إليه إلا عند تعذر غيره.
الكلام السابق ينطبق على وصفات صندوق النقد الدولي لمعالجة مشكلات اقتصادية حادة تعانيها دول تجعل منها مريضة اقتصاديا.
لماذا تقع تلك المشكلات الحادة؟ هناك عوامل داخلية و/أو خارجية؟
تتركز العوامل الداخلية في اتباع سياسات مالية حكومية ونقدية لا تتناسب مع موارد الدولة، ما يتسبب في اختلالات كبيرة. تظهر هذه الاختلالات في وجود مديونيات حكومية عالية جدا، أي عجز ضخم مزعج في الميزانية والحساب الجاري.
أما العوامل الخارجية فمن أسبابها الصدمات التي تراوح بين الكوارث الطبيعية والتقلبات الكبيرة في أسعار السلع الأولية، خاصة في البلدان منخفضة الدخل ذات القدرة المحدودة على تحمل هذه الصدمات. وتزداد المشكلة مع العولمة. والمشكلة يمكن أن تصل إلى دول أخرى غير مريضة اقتصاديا، لكنها تتضرر من أزمات اقتصادية في بلدان أخرى.
الرابط المشترك بين العوامل الداخلية والخارجية زيادة الاختلالات عبر زيادة العجز والمديونية الحكومية. وتصحب الاختلالات القوية رداءة أداء اقتصادي بما يعني تدهورا في النمو الاقتصادي وارتفاعا في العطالة مقرونا بتضخم في الأسعار. وتلجأ تلك الدول أو بعضها إلى الصندوق بهدف محاولة علاج ما تعانيه من أمراض اقتصادية، أو تخفيف حدتها على الأقل.
كيف يساعد الصندوق دوله الأعضاء المصابين؟
يعمل الصندوق على مساعدة الدول المصابة بأزمات اقتصادية من خلال تقديم دعم مالي وقتي، مشروط بتنفيذ سياسات يراها الصندوق تصحيحية. أساس هذه السياسات ما يسميه الصندوق ضمان الإنفاق الحكومي المسؤول. وهذا الإنفاق المسؤول يستلزم خفض العجز والمديونية الحكومية. ولعل هذا الخفض يعيد للاقتصاد استقراره وتتيح فرصة نموه.
ما العادة في وصفات الصندوق؟
المشكلة والخلاف في السياسات التي يرى الصندوق لزوم تنفيذها لخفض العجز والاختلالات وتقليل الاعتماد على الديون. فقد جرت العادة في وصفات الصندوق على المطالبة بخفض الدعم وزيادة موارد الدولة المالية من الضرائب والرسوم. والهدف النهائي خفض العجز. والنتيجة ألا يتقبل عامة الناس توصيات الصندوق. ومن أصعب الأمور على الناس خفض الأرزاق. والملاحظ أن الإضرار بالجسم أهون كثيرا عند أغلب البشر من الإضرار بأرزاقهم.
هل ما زال الصندوق على وصفاته؟
زاد شعور وتفهم خبراء الصندوق بشدة تأثير توصياتهم في الناس. ومن ثم زادت توجهات الصندوق نحو تطبيق قاعدة آخر الدواء الكي. لكنها لم تصل بعد إلى التطبيق المرجو.
تخفيض الإنفاق الحكومي مطلب مؤكد. لكن كيف؟ هنا تختلف الأنظار.
مطلوب مراجعة أعمق لعملية تخفيض الإنفاق. مطلوب تقديم تمويل ينتج تصحيحا في الاقتصاد بصورة متدرجة، وليس بهرولة. نقول ذلك رغم أن أكثر الناس بطبيعتهم هلوعون. مطلوب النظر في استثمار وتشغيل أصول يمكن الاعتماد عليها بصورة أكبر بما يساعد على تخفيف المديونية والعجز.
وبصفة عامة يتجه الصندوق أكثر وأكثر نحو تصميم أدوات إقراض متلائمة بصورة أفضل مع احتياجات تواجه ميزان المدفوعات. هذا الميزان باختصار شديد يعني الفرق المالي بين ما يدفع إلى الخارج ويتسلم من الخارج. كما يحاول الصندوق تطبيق سياسات خاصة بدعمه البلدان منخفضة الدخل. من أسس هذا الدعم تقديم تمويل بفائدة صفر في الوقت الحاضر.
يقدم الصندوق خدماته وتمويلاته بناء على طلب البلدان الأعضاء، ولا يقدم قروضا لمشاريع بعينها كما تفعل بنوك التنمية. وبعد تلقي الطلب من البلد العضو، يعقد فريق من خبراء الصندوق مناقشات مع مسؤولين عادة من الأجهزة الحكومية المسؤولة عن المالية العامة والاقتصاد والسياسات النقدية (البنوك المركزية) لتقييم الوضع الاقتصادي والمالي، وحجم الاحتياجات التمويلية الكلية، ويتفاهم الطرفان على السياسات الملائمة لمواجهتها.
وهنا أقول: ينبغي أن يتوسع في المناقشات. ينبغي للمسؤولين ألا يكتفوا بمرئياتهم ومرئيات مستشاري جهاتهم أو مرئيات مستشاري الصندوق، بل ينبغي أخذ مشورة أهل العلم والاختصاص من خارج وزارات وأجهزة أولئك المسؤولين. وبالمثل، ينبغي للصندوق سماع وفهم مرئيات هؤلاء، قبل أن يطرح مرئياته. وطبعا لن تنال أي توصيات استحسان أكثر الناس. لكن الجود من الموجود. والمطلوب حسن الاستغلال والانتفاع من هذا الموجود بأقصى ما يمكن. وكانت هذه أساس نصيحة يوسف - عليه السلام - لملك مصر.
نقلا عن الاقتصادية