أظهرت نتائج مسح المؤشرات الاقتصادية بنهاية الربع الأول 2019، حقائق تقتضي بدرجة عالية إعادة تصميم برامج التوطين بصورة تؤدي إلى رفع كفاءتها، وتحسن بدرجة أعلى من الثمار المنتظرة منها، حيث بينت أنه في الوقت الذي استحوذت فيه المنشآت الكبيرة على 39.8 في المائة من إجمالي العمالة في القطاع الخاص "3.35 مليون عامل"، لم يتجاوز معدل التوطين فيها سقف 25.7 في المائة، على الرغم من توظيفها لنحو 50.5 في المائة من إجمالي العمالة السعودية، في الوقت ذاته تمكنت تلك المنشآت الكبيرة من توظيف نحو 2.5 مليون عامل وافد "أعلى من ثلاثة أضعاف أعداد العاطلين من المواطنين والمواطنات". وأظهرت النتائج ذاتها أن المنشآت المتناهية الصغر والصغيرة استوعبت مجتمعة تقريبا أعداد العمالة نفسها "سعوديين، وافدين"، أي ما نسبته 39.8 في المائة من إجمالي أعداد العمالة في القطاع الخاص، لكنها لم تتمكن على مستوى التوطين من تجاوز 14.4 في المائة، وهو الأمر الممكن تفهمه قياسا على إمكانات وموارد ونشاطات حتى مستويات الأجور لكل من المنشآت الكبيرة من طرف، ومن طرف آخر مجموع المنشآت المتناهية الصغر والصغيرة، التي تصب جميعها في مصلحة الطرف الأول والأكبر ممثلا في المنشآت الكبيرة.
وبالنظر من زاوية أخرى أكثر تفصيلا؛ أظهرت النتائج ذاتها تدني مساهمة الشركات المساهمة في توظيف العمالة السعودية، حيث لم تتجاوز 17.7 في المائة من إجمالي العمالة السعودية في القطاع الخاص، وليأتي معدل التوطين المتحقق حتى نهاية الربع الأول من 2019 عند مستوى 34.1 في المائة. وهي الشريحة التي تنتمي أغلبيتها إلى فئة الشركات الكبيرة، ومقابل ذلك وصلت نسبة الاعتماد على العمالة الوافدة إلى 65.9 في المائة.
يأتي هذا التركيز على تلك الجوانب شبه الغائبة عن أغلب مضامين برامج التوطين، التي بالكاد تظهر فوارق جلية في تعاملها مع مختلف منشآت القطاع الخاص، سواء وفقا للكيانات القانونية، أو وفقا لحجم رؤوس الأموال التي تم ضخها في تلك المنشآت. وهو التركيز المرتبط أيضا بما تم طرحه في المقال الأخير "التوطين الحقيقي يبدأ من الأعلى أولا"، الذي تمت الإشارة فيه إلى ضرورة أن تتبنى برامج التوطين مسارات محددة، تستهدف التركيز بدرجة أكبر على توطين المستويات الإدارية العليا والتنفيذية في منشآت القطاع الخاص، كونها هي المنطقة التي تصنع القرار في تلك المنشآت، ومن ضمن قراراتها بالطبع اتخاذ ما يتوافق مع مصالحها في خصوص برامج التوطين، التي تعدها بكل تأكيد أحد مهددات وجود وسيطرة أي عمالة وافدة تستحوذ على قرارات المنشأة التي تعمل فيها.
لقد أثبتت تجربة تسعة أعوام متتالية مع "مسطرة" برامج التوطين، التي تفتقر كثيرا إلى التمييز بين منشآت القطاع الخاص على مستوى الحجم ورأس المال المدفوع والكيان القانوني وطبيعة النشاط الذي تعمل فيه من جانب، وتفتقر أيضا إلى التمييز بين نوعية ومستويات الوظائف الموجودة داخل كل منشأة، أقول أثبتت التجربة الطويلة الماضية التي تكاد تكمل عقدا من الزمن، عدم جدواها إلى حد بعيد جدا، لعل أهم ما يؤكد ذلك كمؤشر هو معدل البطالة ذاته، الذي تستهدف خفضه كل تلك البرامج للتوطين، بارتفاع معدل البطالة من 10.5 في المائة مع بداية تدشين تلك البرامج، ووصولها وفق آخر نشرات السوق إلى 12.5 في المائة، واقتران كل ذلك بتضاعف أعداد العاطلين مرتين خلال الفترة نفسها، وتضاعفت أعداد الباحثين عن العمل تسعة أضعاف للفترة نفسها أيضا.
تؤكد النتائج الفعلية على الأرض وفقا لما تقدم ذكره، أن الحاجة إلى إعادة تصميم وبناء عموم كل تلك البرامج للتوطين تجاوزت مجرد كونها ملحة، إلى أعلى درجات الأولوية التنموية في إطار مواجهة أحد أكبر التحديات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، التي تتجاوز انعكاساتها على المستويات كافة مجرد تدوين أرقام بالارتفاع أو الانخفاض، إلى أبعاد أعلى أهمية، وأوسع نطاقا من مجرد سوق عمل وبيئة أعمال محلية، لتشمل بأهميتها القصوى أبعادا اقتصادية كلية، ومجتمعية على نطاق واسع جدا يضم مختلف شرائح المجتمع السعودي.
قد يقول قائل؛ إن هذا سيتضمن تحمل تكاليف أكبر وبذل جهود إضافية، إلا أن الرد عليه يعد في غاية البساطة، كون كل تلك التوقعات مهما بلغت حدودها القصوى، تعد أدنى بكثير من التكاليف الراهنة التي يكابدها الاقتصاد والمجتمع على حد سواء، بل لا تقارن أبدا حال مقارنته بتكاليف استدامة ارتفاع معدل البطالة كما هو عليه الآن، أو مقارنة بانعكاسات عدم تحقق الأهداف المخطط لها لبرامج التوطين الراهنة. الأمر الآخر؛ ألا يدعو الانخفاض الملموس لما تحقق من أهداف برامج التوطين الراهنة عما كان مخططا لها، أن يعاد النظر بالكامل إلى منظومة تلك البرامج؟ وأن يبدأ التفكير الجاد في إعادة تصميمها بما يتوافق مع المعطيات والمستجدات الراهنة؟
لم لا توجد سياسات أو برامج اقتصادية في أي اقتصاد حول العالم، بقيت على حالها دون أي تغيير أو تطوير في هذا الشأن أو في غيره، بل إن جمود أي من تلك السياسات والبرامج، وعدم مواءمتها أي مستجدات أو تطورات يعد في ذاته أول مؤشرات السقوط، في الوقت ذاته الذي يعد فيه تسلحها بالديناميكية وسرعتها على التكيف مع أي مستجدات من أهم أسباب نجاحها وجدواها على أرض الواقع، والأهم من ذلك ارتقاؤها وأهليتها اللازمة والكافية، التي تؤهلها لتلبية متطلبات واحتياجات المجتمع والاقتصاد الذي تعمل فيه.
إن وزارة العمل بتبنيها منهجيات أكثر حيوية وتواؤما مع التطورات والمستجدات الراهنة، بما يتجاوز في تنوعه وذكاء تعامله "المسطرة" شبه الجامدة للبرامج الراهنة، يمكنها بتوفيق الله تعالى أن تحقق كثيرا من الإيجابيات الاقتصادية والاجتماعية، التي ستمتد آثارها المحمودة من مجرد خفض معدل البطالة محليا، ومجرد تصحيح أوضاع سوق العمل المحلية، إلى تحقيق عوائد أعلى تمتد إلى نمو الاقتصاد الوطني، وتحسين مستويات الدخل بصورة مثالية لشرائح أوسع من المجتمع السعودي، والإسهام بصورة أفضل بكثير من الوضع الراهن في دعم مختلف البرامج الراهنة للتحول الوطني 2020، ولبقية المبادرات والبرامج المهمة المكونة لـ"رؤية المملكة 2030". والله ولي التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية
مع احترامي للكاتب، فقد تابعت مجموعة من المقالات له وللاسف لا اجد فيها سوى حشو لا أكثر بدون أي مضمون فعلى
فعلاً
اعتقد انه يجب تحديد النموذج الاقتصادي المرغوب فيه - اقتصاد سوق حر او اقتصاد اسلامي او اشتراكي ايا ما يكون - ثم بعد ذلك احترام قواعد اللعبة التي تناسب النموذج الاقتصادي المرغوب . أما من كل فلم اغنية فإن اثار التصرفات المتعارضة تلغي بعضها بعضا وتبقى محلك سر.
صحيح