انتهى بنجاح قبل أيام مؤتمر «مستقبل الاستثمار» في الرياض بنسخته الثانية، برعاية من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وبحضور من شخصيات سياسية واستثمارية وإعلامية. وقد كان المتتبع لوسائل الإعلام الغربية قبل المؤتمر يظن أنه سيكون خالياً من الحضور بعد الهجمات الشرسة التي شنتها بعض الوسائل الإعلامية في الأسابيع الماضية، ليتفاجأ بعد ذلك بكم الحضور الهائل الموجود طوال أيام المؤتمر. وهذا ما يطرح أسئلة مهمة مثل؛ بم يهتم رجال الأعمال قبل الاستثمار في دولة معينة؟ وهل يشكل مستوى حقوق الإنسان فارقاً لدى المستثمرين الأجانب؟ وهل تغيّب مَن تغيّب عن هذا المؤتمر بدافع المحاماة المحض عن حقوق الإنسان؟
صدرت دراسة من باحثين في جامعة دينفر الأميركية وجامعة جورج أوغست الألمانية مفادها أن اتخاذ القرار في الاستثمارات الأجنبية لا يعطي اعتباراً لمستوى حقوق الإنسان في الدولة المراد الاستثمار فيها. وقد طبقت هذه الدراسة على الاستثمارات الأميركية في بعض الدول الأفريقية ذات المستوى المنخفض في حقوق الإنسان، ليتضح بعدها أن العلاقة معدومة بين مستوى الاستثمار الأجنبي ومستوى حقوق الإنسان. والمتأمل في هذا الجانب، قلما يجد ارتباطاً بين العاملَين. فعلى سبيل المثال، لا تبدو منظمات حقوق الإنسان سعيدة بمستوى حقوق الإنسان في الصين، فهي في كل التقارير السنوية تندد بانخفاض مستوى حقوق الإنسان في الصين، إلا أن الشركات العالمية تتسابق فيما بينها للاستثمار في السوق الصينية، وبناء على ذلك تأتي الصين في المركز الثاني عالمياً بعد الولايات المتحدة في قيمة الاستثمار الأجنبي بأكثر من 135 مليار دولار. والأمر كذلك لدول عدة حول العالم وليس الصين وحدها، وإنما ذكرت الصين هنا لمجرد المثال.
وما يؤكد هذه النتيجة، هو ما صرح به وزير الطاقة السعودي الدكتور خالد الفالح بعد المؤتمر، أن كثيرا من الشركات التي انسحبت قبل المؤتمر قامت بالاتصال بالمسؤولين السعوديين موضحين اعتذارهم وأسفهم لعدم الحضور، وطلبهم فتح مكاتب في السعودية لإعادة العلاقات كما كانت. هذا التصريح نقل في عدة وسائل إعلامية، منها «فاينانشال تايمز»، ولو لم تكن هذه الاتصالات صحيحة لسارعت الشركات المنسحبة إلى استنكاره، ولكنه قوبل بالصمت من هذه الشركات، ولم يحظ بالضجة الإعلامية التي صاحبت انسحاب هذه الشركات. وفي هذه الاتصالات دلالة واضحة على سبب انسحاب هذه الشركات، وهو الاستجابة للمطالب وكسب الشعبية بين الناس. ولم تقم وسائل إعلامية كثيرة تدعي أنها «باحثة عن الحقيقة» بنشر هذا التصريح، مع أنه في صلب الحقيقة. ولو وجدت في هذا التصريح ادعاء كاذباً لسارعت في نشره وتبيين زيفه.
إلا أن الأحداث المصاحبة لمؤتمر «دافوس الصحراء» وضّحت أموراً لم تكن لتتبين لولاها، وهو ما صرح به الرئيس التنفيذي لشركة «توتال» الفرنسية في بداية كلمته في المؤتمر، أن الفارق شاسع بين العلاقة الاستثمارية والشراكة الاستراتيجية، فالشراكة تعني الاستمرار مهما كانت العوامل المحيطة وبغض النظر عن التقلبات المحتملة، والعلاقة الاستثمارية - بالمقابل - قد تهتز بسبب المتغيرات. وذلك فإن هذه الأزمة على الرغم من بعض المرارة المصاحبة لها، فإنها وضّحت للمملكة الفارق بين المستثمر والشريك على الأقل في الجانب الاقتصادي.
والمملكة لم تخطُ نحو جذب الاستثمارات الأجنبية بسبب ضعف في اقتصادها، بل خطت إليه لرغبتها في تنويع مصادرها الاقتصادية والاستفادة من فرص استثمارية حقيقية موجودة فيها. والمتطلعون للاستثمار في المملكة لم يُقدموا على هذه الخطوة محاباة للمملكة، إنما لوجود الفرص فيها. والواقع أن ابتعاد بعض المستثمرين قبل البداية الفعلية لاستثمارهم أفضل من ابتعادهم في وقت متأخر. وتخيل - عزيزي القارئ - كيف سيكون الحال لو انسحبت هذه الشركات بعد تشغيلها؟ وكيف سيكون التأثير السلبي على البيئة الاستثمارية وعلى معدل البطالة في المملكة؟
إن ما يهم المستثمر الأجنبي في المقام الأول هو الحماية القانونية لاستثماراته، ووجود القوانين الصارمة والحوكمة، ما يضمن للمستثمر حقوقه الاستثمارية. وفي ظل هذه الحوكمة وغياب البيروقراطية الحكومية، ومع النمو الاقتصادي المستمر في المملكة، فإن الشركات الأجنبية سوف تتسابق للاستثمار في المملكة. والمملكة مستمرة في تطوير البيئة الاستثمارية فيها منذ إعلان «رؤية المملكة 2030» قبل سنتين. أما المزايدون على قضايا غير مرتبطة بأي شكل بالاقتصاد، فلا حاجة للمملكة في استثماراتهم؛ لأنها استثمارات لم تكن - على الأغلب - مؤمنة بجدوى الاستثمار في المملكة، فالأفضل انسحابها مبكراً ليتبقى للمملكة بعد ذلك شركاؤها الاستراتيجيون.
نقلا عن الشرق الأوسط