لم يدر بخلد عائلتي عندما تفتحت عيناي على الحياة أن هذا الابن البكر قد كان مُقدر له،بعد مرور 31 عاما على ولادته بحي "منفوحة"، أن يجد نفسه وجهاً لوجه مع عملاق الصيرفة الاستثمارية وفارسها "جولدمان ساكس" الذي تأسست لبناته الأولى في 1869. وللقراء الذين لا يعرفون "منفوحة" فهي قرية قديمة من قرى وادي حنيفة إلا أن التوسع العمراني لمدينة الرياض أدى لتحويل تلك المنطقة،التي عاش بها الشاعر العربي الأعشى، الى أحد أحياء العاصمة (والتي هجرها معظم أهاليها لأحياء أخرى).
البداية
أتذكر أواخر 2011 جيداً. كنت لتوي حديث التخرج ومُحملاً بشهادة الماجستير الثالثة في تخصص المصرفية الاستثمارية والمالية الإسلامية. وكنت على وشك كتابة الفصل الثاني من حياتي المهنية (الفصل الأول أنتهى عندما اتخذت قراراً شجاعاً وغريباً في نفس الوقت بتقديم استقالتي من وظيفتي ذات الدخل الجيد ومن ثم المغامرة بدراسة تخصص جديد علي !). وأثناء فترة البحث عن وظيفة، انهالت الأخبار التي تتحدث عن نية فخر الصرافة العالمية جولدمان تبني الصكوك للمرة الأولى (وذلك بإصدار مُزمع تصل قيمته الى ملياري دولار). وبما أنني كنت عاطلاً عن العمل (كحال من كان يتخرج إلى أن يجد وظيفة) قررت أن أتمعن في ثنايا نشرة الإصدار الخاصة بالصكوك التي سيتم ادراجها بالبورصة.
لهيب الانتقادات
وفي الوقت الذي كان إعلام صناعة المال الإسلامية يهلل للخطوة الرائدة للقادم العالمي الجديد لصناعتنا، تشجعت ونشرت مذكرة بحثية باللغة الإنجليزية تطرقت فيها الى الهيكلة المعقدة لصكوك جولدمان ساكس. حيث اكتشفت وجود ثلاث فجوات تجعل من هذه الصكوك مخالفة للشريعة؛ لتشتعل بذلك «المناقشة الجدلية العظيمة» كما وصفها الإعلام الغربي. كانت تلك المذكرة البحثية بمثابة كرة الثلج التي كانت تتدحرج من قمة الجبل الجليدي لتكبر يوماً بعد يوم. في البداية خرج المدافعون عن البنك الأمريكي وأخذوا يهاجمونني ويشككون في الحجج التي ذكرتها في المذكرة البحثية. حينها تذكرت مقولة غاندي الإلهامية " يتجاهلونك في البداية؛ ثم يسخرون منك؛ ثم يحاربونك؛ثم تنتصر".
اتصال من نيويورك
"مرحبا، هذا "توم برايث وايت" يتحدث معك من صحيفة الفايناشل تايمز. هل من الممكن أن نجري مقابلتاً معك؟". بالطبع لم أتردد بإجراء تلك المقابلة مع الصحيفة التي تأسست في 1888. كيف لا ونحن قد تعلمنا بكليات الأعمال أن صحيفة الفاينانشل تايمز، التي يبلغ متوسط قرائها اليومي 1.2 مليون شخص، أن هذه الصحيفة تحظى بتقدير رفيع من أوساط العاملين بقطاع المال على المستوى العالمي. وتبع ذلك مقابلة أخرى مع "بلومبرج" التي شاركني فيها البريطاني حارس عرفان، الذي يعد أحد أشهر المصرفيين الإسلاميين في العالم. وخلال تلك الفترة كانت الأجواء عصيبة والأفواه مكممة. فلم يكن أحد يتجرأ أن يقف بوجه جولدمان ساكس الذي كانت له هيبه عظيمة.
الطريف في تلك الفترة انني كنت في ذلك الوقت غير معروفا لدى إعلام بلادي بالرغم من ان مقالاتي المتخصصة بالمصرفية كانت تنشر، وانا بمقاعد الدراسة، بالمجلات الاقتصادية المتخصصة باللغة الإنجليزية.
فتوى عثماني
بعدها جاء الفرج بعد أن تم تسريب فتوى من بنك أبوظبي الإسلامي تفيد بتحريم شراء تلك الصكوك (حيث تطرقت تلك الفتوى الى فجوتين شرعيتين سبق أن ذكرتهما في المذكرة البحثية التي سبق نشرها). ومن أمضى على تلك الفتوى المصرفية كان الشيخ محمد تقي عثماني (الذي كان يتقلد منصب آخر وهو رئيس المجلس الشرعي في هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ).وعثماني هو الفقيه المصرفي الذي هز تصريح له في 2007 أساسيات صناعة السندات الإسلامية عندما قال في ذلك الوقت أن 85٪ من صكوك المضاربة والمشاركة غير متوافقة مع الشريعة.
ماذا حصل لهم
-صكوك جولدمان ساكس: بعدما تكشفت الأمور للجميع وبات واضحاً صعوبة تسويق صكوك التورق العكسي في الخليج، قرر البنك التوقف عن العمل بهذه الهيكلة التي حازت على انتقاد الغالبية العظمى من الصناعة. وبعد مرور ثلاث سنوات على هذه الحادثة الجدلية، أصدر البنك باكورة صكوكه ولكن بهيكلة أخرى تختلف عن الأولى
-الشركة التي قدمت المشورة الشرعية: بعد حادثة صكوك جولدمان، تفجر خلاف بين المساهمين وموظفين شركة "دار الاستثمار"،التي قدمت المشورة الشرعية لصكوك جولدمان المثيرة للجدل ونتج عن ذلك انهيار الشركة. (الشركة زعمت أن الشيخ عبدالله المنيع والشيخ محمد القري قد أعطوا موافقتهم على الهيكلة الجدلية إلا أن الفقيهين قد فندوا مزاعم الشركة في مقابله لهم مع صحيفة الاقتصادية"
-حارس عرفان: انتهى المطاف بالرئيس العالمي السابق للتمويل الإسلامي في بنك باركليز الى تأليف كتاب بعنوان: "مصرفيو السماء: في رحاب العالم الخفي للتمويل الإسلامي". وقد وثق عرفان في كتابه، الذي حاز على إعجاب النقاد، تجربتي مع جولدمان ساكس وذلك بعدما خصص فصلاً خاصاً بهذه القضية في كتابه. حيث رويت له ما عانيته إبان تلك الفترة (لاسيما من رسائل الكراهية التي وصلتني إبان بداية فصول تلك القضية).
- أما عن ما حل براوي هذه القصة (لاسيما بعد التهديدات التي كانت تصلني،حينها، من البعض بأني لن أجد وظيفةً بعد الآن في الصناعة من جراء "فظاعة" العمل الذي قمت به ! )، فالحمدلله فقد انتهى بي المطاف بالعمل مع مؤسسة عالمية مرموقة وتم اختياري لثلاث سنوات متواصلة ضمن قائمة «إسلاميكا» للشخصيات القيادية «الأكثر تأثيراً» في صياغة الاقتصاد الإسلامي).
-صناعة المال الإسلامية: تحولت هذه القضية إلى أحد أبرز الأحداث المفصلية في تاريخ أسواق الدين الإسلامية وساهمت كذلك في جعل العديد من المنتمين للقطاع المصرفي حول العالم يعيدون النظر في قيمنا الإسلامية الحقيقية؛ حيث كان لهذه التجربة فضل كبير على هذا القطاع (لا سيما في الحوكمة الخاصة بفقهاء المصارف).
الفجوات الثلاثة
من أراد أن يتعمق بالفجوات الشرعية الثلاثة لصكوك جولدمان فهذا ملخصها:
-(أولاً) هناك مؤشرات بمذكرة الاكتتاب توضح أن الصكوك ليست (مرابحة) كما يُزعم بل هي (تورق عكسي)، ومعلوم أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي أصدر فتوى في عام 2009 بتحريم التورق المنظم والعكسي معتبراً إياه مجرد حيلة لاستخدام الربا.
-(ثانياً) أما الفجوة الثانية في الهيكلة فتكمن في أن المصرف الأمريكي سيستخدم هيكلة معقدة بحيث ينتهي به المطاف لاستخدام أموال حملة الصكوك لتمويل عملياته الربوية. مع العلم إن معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية لا تجيز إجراء التورق للبنوك التقليدية في حالة تبيَّن أن استخدام السيولة سيكون في الإقراض بفائدة وليس للدخول في عمليات مقبولة شرعاً
-(ثالثا) كان المصرف الأمريكي في حينها ينوي إدراج هذه الصكوك إلا أن هناك شكوكاً حول كيفية تقديم البورصة الإيرلندية ضمانات بأن هذه الأوراق المالية سيتم تداولها بالقيمة الاسمية. ففي العادة عندما يكون هناك (تداول) فإن ذلك يعني أنه سيكون هناك ارتفاع وانخفاض في قيمة هذه الصكوك؛ فلو تحقق ذلك فهذا يعني أننا نتداول الديون، وهذا ما تحرِّمه الشريعة، وهنا تكمن الفجوة الثالثة.
خاتمة
-وبعد كل ما مررت به، هل كنت سأقف في وجه صكوك جولدمان لو عادت عقارب الساعة للوراء؟ الإجابة : نعم. لقد كانت نيتي عندما كتبت تلك المذكرة البحثية تتركز حول تحذير القطاع المالي الإسلامي بأننا على وشك أن نحيد عن مبادئنا الأساسية.
-من أراد أن يتوثق، فالقصة الخبرية لصكوك جولدمان ساكس لدى الفاينانشل تايمز معنونة بـ
(Goldman runs into sukuk hurdle)
وبلومبرج (Goldman Sachs sukuk row may dent industry lure)