ابتعد أداؤنا الاقتصادي عن كلاسيكيته المعهودة في مختلف المجالات، وعلى رأسها كيفية إدارة استثماراتنا محليا وخارجيا. فقد تعودنا في الماضي على معاملة فوائضنا النفطية على أنها لا بد أن تستثمر بشكل شبه سائل أو على شكل مشاريع قصيرة الأجل، كي تستطيع الحكومة تسييلها في أقصر فترة ممكنة وبأقل الخسائر.
لذا كان الملاذ الذي اتخذناه في الماضي هو سنداتِ الخزينة الأمريكية التي درَّتْ وتدرُّ أقلَّ العوائد المتاحة، وَفْقا لتلك الكلاسيكية الماضية. ولم نكن نفكر وقتها في توسيع مهمات صندوق الاستثمارات العامة لتتساوى الاستثمارات المخصصة للداخل والخارج، بل وكنّا نرفض لسنوات عديدة إنشاء صندوقنا السِّيادي لأسباب منها تخوفنا من فشل بعض مشاريعه مع ازدياد درجة المخاطر. وكان هذا خطأ جسيماً لن ننساه جميعاً.
وقد أضعنا بذلك العشرات من الفرص الاستثمارية الرخيصة والسهلة الماضية؛ نتيجةَ تَسَيُّد هذا النمط، على الرغم من المطالبات العديدة - وعلى كافة المستويات - بتوسيع نشاط صندوق الاستثمارات العامة ليصبح «صندوقنا السيادي».
والآن وفي ظلِّ رؤية (2030)، أصبح صندوق الاستثمارات العامة في قلب الرؤية ومحور التنوع الاقتصادي وذراعه الاستثمارية. واتَّضحَ ذلك جليا خلال العامين الماضيين؛ فأصبح الصندوق يستجيب أو بالأحرى يزيح عن برامج رؤية (2030) عقبة توفير الاستثمارات اللازمة لمختلف الأفكار والمشاريع التي ستُبَدِّلُ من طبيعة اقتصادنا المحلي وتزيد من قدراته ومناعته ضدَّ تقلبات المصدر الوحيد، وهو النفط الذي أخافتنا تقلبات أسعاره خلال العقود الماضية.
والآن وفي ظلِّ الدور الجديد الممنوح لصندوق الاستثمارات العامة ومضاعفة رأس المال اللازم له، صارَ يقوم بأدوار استثمارات مباشرة في الداخل والخارج، كنَّا نفتقدها. وغَدَتِ الجرأة العقلانية شعاره، في كل فكرة استثمارية يناقشها، وأصبح له موقعه الإلكتروني الذي يتمتع بشفافية نأمل أنْ تتطورَ وتزدادَ أكثرَ فأكثر.
ومازال بيننا من يعترض على دور الصندوق في الاستثمارات الخارجية؛ بحجة أن الاستثمار في الداخل أولى بكثير، وهي وجهة نظر نحترمها وإن اختلفنا معها؛ خاصة في ظل القيود الصارمة المفروضة على الصندوق بمناصفة استثماراته بين الداخل والخارج.
ولا ننسى أنَّ أصول الصندوق وعوائده قد تجاوزت 250 مليار دولار، وستتضاعف خلال السنوات القادمة بحلول عام (2022) على أمل وصولها إلى مستوى تريليوني دولار بحلول 2030 كما تم إعلانه رسميا، وهي مبالغ كبيرة بكل المقاييس.
وإذا ما ناقشنا أهم مزايا الاستثمارات الخارجية المباشرة القائمة حاليا نجد أنها تتلخص في النقاط التالية:
أولا: تنوُّعها الذي يؤدي إلى تقليل المخاطر المحتملة بالنسبة لها، سواءً أكانَ هذا التنوع جغرافيا أوْ قِطاعيا، مع العلم أنَّ جميع الدول تنحو نَحوَ هذه الإستراتيجية لتحقيق أعلى العوائد من هذه الاستثمارات.
ثانيا: امتلاك صندوق الاستثمارات العامة لحصصٍ في شركات التَّقْنِيَة بالدرجة الأساسية، يساهم في تضييق الفجوة التِّقنيَّة التي تفصلنا عن بقية دول العالم الصناعي من حيث:
أ - نقل وتوطين التقنية العالمية.
ب – تدريب العمالة السعودية في هذه المصانع أو المعامل التقنية.
ج – إمكانية توجيه فتح بعض فروع هذه المؤسسات الدولية في المملكة، - خاصة في ظل تبنِّينا لقانون ملكية الأجانب لاستثماراتهم 100% -، وذلك بحصولنا على مقاعد في مجالس إدارة مُتَّخِذِي القرارات في هذه الاستثمارات الخارجية المباشرة.
ثالثا: تُوَلِّدُ هذه الاستثمارات المباشرة في الخارج ثقةً متبادلةً بين الصندوق وكبار المستثمرين الدوليين في مجالات عديدة، كما توفر فرصا لتسويق بعض مواردنا الأولية مثل النفط والمعادن وغيرها، من خلال الصناعات المتكاملة معها. ولا أدلَّ على ذلك من امتلاكنا أكبر مصفاة نفط في الولايات المتحدة (موتيفا)، ومصافي مشتركة مع كل من الصين والهند وكوريا الجنوبية وغيرها، إضافة الى الشراكات البتروكيماوية مع كِبار المنتجين العالميين في مختلف الدول، واستخدامهم لمنتجات الجيل الأول والثاني من البتروكيماويات في صناعات الجيل الثالث منها.
رابعا: من المزايا الإيجابية للاستثمارات المتبادلة مع مختلف الشركاء العالميين، أن ربطنا صفقات الأسلحة المبرمة بمسألة تصنيع أجزاء متزايدة منها داخل المملكة لِما يوفره ذلك من تدريب وتوطين للتقنية وإيجاد فرص وظيفية لشبابنا السعودي في هذا المجال. وعلى الرغم من انخفاض نسبة التصنيع المحلي لهذه الأسلحة التي يجري التفاوض حولها، إلَّا أنَّها تُعَدُّ بداية جيدة ومطلوبة؛ نبني من خلالها قاعدة أساسية للتصنيع العسكري لدينا.
وقد لوحظَ خلال الزيارات الأخيرة للأمير محمد بن سلمان - إلى كلٍّ من روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا - أنَّ الاستثمارات المتبادلة كانت محور معظم النقاشات والمفاوضات التي جرت، وأنَّ العديد من الاتفاقيات التي أبرِمَتْ أوِ التي تمَّ توقيعُ مذكرات تفاهم بشأنها على أنْ تُستكمل لاحقا، قد مَسَّتْ كلَّ المجالات الاقتصادية مع تنوع جغرافي مطلوب.
كما لوحظ التسابق الذي جرى بين الشركات العالمية لإبرام صفقات استثمارية مع المملكة؛ إدراكا من تلك الشركات لجديَّة خطواتنا، ولامتلاكنا الكثيرَ من عناصر القوة؛ وأبرزها مكانة المملكة الإسلامية باحتضانها الحرمين الشريفين، وموقعها الجغرافي، وكونها أكبر اقتصاد في منطقتنا، ومن أكبر 20 اقتصادا في العالم، وذلك ما تعنيه عضوية المملكة في مجموعة العشرين. وتلك جميعها حقائق معروفة دوليا، على الرغم من الأزمة المؤقتة التي يمرُّ بها اقتصادنا السعودي.
وختاما، فما يقوم به صندوق الاستثمارات العامَّة حاليا جوهري ودافع قوي لتحقيق برامج رؤية (2030). ثُمَّ إنَّ تهيئته المناخَ الاستثماريَّ المحليَّ، وتقبُّلَ الشركاتِ العالمية للتزاوج معه (أعني الصندوق) في استثمارات مشتركة، سيؤديانِ حتما إلى تحقيق مزايا لجميع الأطراف، ويُسرِّعانِ من التطبيق الجاد وَفْقَ معاييرِ الحوكمة العالمية؛ للوصول إلى تحقيق اقتصاد منتج كانَ في ماضيه يعتمد على ريع الموارد الأولية.
نقلا عن عكاظ