الثقافة الريعية والرعوية للاقتصاد السعودي والفهم المرتبط بها بدأت مؤشرات انتهائها تظهر مع كل قرار حكومي يصدر أو يتخذ، وبدأت تتشكل ملامح اقتصاد المرحلة المقبلة الذي يقوم على كفاءة الإنفاق، وتوجيه الدعم لمستحقيه، ومراعاة الاختلاف الطبقي في مستويات المعيشة عند اتخاذ القرارات المؤثرة على معيشة المواطن، كل ذلك بلا شك تحول إيجابي قد يكون مؤلما في البداية، لكن أثره على المدى الطويل سيكون إيجابيا في الخروج من شرنقة البترول وأسعاره المتقلبة إلى اقتصاد متنوع ومنتج.
والفضل في ذلك التحول يعود إلى إعادة هيكلة السياسات المالية والاقتصادية المتبعة في السابق، والتي أصلت لخلق اقتصاد رعوي يعتمد على عائدات تصدير النفط الخام، هذه الهيكلة بدأت تظهر آثارها في ارتفاع مساهمة العوائد غير النفطية في موازنة العام 2018، والتخلص من الأعباء التشغيلية لبعض القطاعات الاستهلاكية كالكهرباء والماء والنقل الجوي، وإعادة هيكلة صندوق الاستثمارات الحكومية وخروجه من عباءة الاستثمار التقليدي إلى استثمارات ذات عوائد مجزية.
لكن النجاح في هيكلة السياسات المالية والاقتصادية وحده ليس كافيا إن لم ترافقه هندرة للعمليات الإدارية بشكل كامل، وتغيير الثقافة التنظيمية للمنظمات الحكومية، لأن هذه الثقافة تولد من رحم الثقافة المحلية أو الوطنية، وبالتالي فإن تغيير ثقافة المجتمع ورفع وعيه الاجتماعي والاستهلاكي والمعرفي شرط أساسي لهذا النجاح، فالثقافة التنظيمية تتكون على القيم والمعتقدات والأفكار التي يتشاركها الأفراد في المنظمات، والتي عادة ما يجلبها الأفراد من بيئتهم المحلية، وهي عنصر أساسي في نجاح عملية الهندرة، لذا فإن الهندرة لا بد أن تشمل جميع مكونات الاقتصاد وعملياتها الإدارية والمالية والقائمين عليه، فالموظفون مكون أساسي في عملية الهندرة، ومقاومتهم للتغيير قد تؤدي إلى نتائج سلبية.
والملاحظ أن هناك تباينا كبيرا بين مستوى تفكير القيادة التي تتولى مستوى التغيير ومستوى بعض الموظفين في تلك الجهات المعنية بالتغيير، وهذا يؤكد أن هناك حاجة لإعادة هندسة كثير من الموظفين بما يتوافق مع متطلبات إعادة هندسة العمليات الإدارية التي تعد عنصرا أساسيا لتحقيق تحسينات جذرية في الأداء التنظيمي بشكل عام بما يكفل سرعة الأداء وانخفاض التكلفة وجودة في المنتج والمخرجات.
الشيء الجميل أنه رغم هذا التفاوت في مستوى الفهم والتفكير هناك استعداد كامل للتغيير، وهناك تقبل وتبن للتغيير، وعدم رغبة في البقاء على الوضع الحالي في المنظمات الحكومية بشكل عام، واستيعاب كامل لعملية التحول الاقتصادي والإداري التي نمر بها، والحديث عنها يحضر في كل النقاشات والندوات، وهذا يعني أن الانتقال إلى التطبيق لن يواجه عوائق، لكن ذلك لا يتم دون إعادة هندسة العقول التي تتولى عملية التغيير كي تتكامل مع نجاح هيكلة السياسات المالية والاقتصادية، وهو ما نؤمل عليه كثيرا في زيادة فعالية المنظمة وتحقيق أهداف رؤية السعودية 2030.
نقلا عن مكة