النفط كان في مقدمة أهم العوامل التي لعبت دورا خطيرا في صياغة السياسة العالمية خلال القرن العشرين وستبقى في الألفية الثالثة التي تشهد صراعات ونزاعات وحروبا أفدح وأقسى من حروب داحس والغبراء.
وقد شهدت حلبة الصراع العالمي على النفط معارك نفطية عديدة كان ولا يزال الإنتاج والأسعار القاسم المشترك فيها، وقد برزت على ساحة الصراع قوى مؤثرة، منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) التي ولدت في أواخر عام 1960م التي حاولت بعد ثورة أسعار النفط الأولى عام 1973م أن تفرض إرادتها على سوق البترول الدولية.
لكن طموحاتها صدت، فهناك لاعبون آخرون يوجهون معها دفة سوق النفط الدولية، منها وكالة الطاقة الدولية (IEA) التي تمتلك في جعبتها أدوات عديدة مؤثرة على عنصري الإنتاج والأسعار باعتبارها ممثلا للدول الصناعية التي تستهلك حوالي 75 في المئة من الاستهلاك العالمي من سلعة النفط.
وعلى الجانب الآخر تقف الدول المنتجة من خارج الأوبك كشريك في إدارة الصراع من منظور المصلحة الخاصة بها، ومنها دول ذات وزن كبير في الإنتاج كروسيا، التي يتخطى إنتاجها (10) ملايين ب/ي، والنرويج والمكسيك ودول أخرى، ناهيك عن شركات النفط العملاقة التي تحمل جنسية الدول الصناعية المستهلك الرئيسي للنفط والتي تحظى بدعم قوي من تلك الدول للتأثير على أسواق النفط الدولية.
وقد تنوعت أساليب وأسلحة كل اللاعبين ـ فمنظمة الأوبك اعتمدت سياسة مرنة هدفها التحكم في حجم الإنتاج وتحديد السعر كسلاح ناجع لضمان توازن سوق النفط الدولية - بينما وكالة الطاقة الدولية (IEA) كان ولا يزال سلاحها الترشيد في استهلاك النفط وفرض الضرائب الداخلية على استخدامه - إلى جانب نشاطها في البحث والتنقيب وإيجاد مصادر بديلة على نحو يضمن لها استمرار إمدادها بالنفط الرخيص.
ومن يقرأ اجتماع الأوبك الوزاري الأخير في فيينا رقم 173 تاريخ 30 نوفمبر الماضي الذي جاء متزامنا معه اجتماع أعضاء الأوبك المشترك مع الدول خارج المنظمة ليبلغ عدد المنضوين تحت مظلة هدف استقرار سوق البترول الدولية (24) دولة منتجة للنفط، ليصبح هدفهم واحدا تحديد سقف الإنتاج والالتزام به لتتعافى الأسعار لتبلغ مستوى يحقق العدالة في السعر للمنتجين والمستهلكين.
وبالفعل قرر المجتمعون المتعاونون تمديد تخفيض إنتاجهم (1.8) مليون ب/ي حتى نهاية العام القادم، وبذلك فإن الجميع مددوا التخفيض لتسعة أشهر قادمة بعد شهر مارس من العام القادم.
إذا الشركاء النفطيون الـ (24) أكدوا مد تخفيض الإنتاج للمرة الثانية ومراجعته خلال اجتماع يونيو القادم وسيعود إنتاج كل من نيجيريا وليبيا إلى مستواه عام 2017م.
هذا الاتفاق جاء في ظل توقع الأوبك والمتعاونين معها تحقيق توازن مقبول بين العرض والطلب الذي سيرتفع إلى (1.5) مليون ب/ي، هذا العام والعام القادم مع تراجع المخزونات بوتيرة مقبولة أيضا لتبلغ (140) مليون ب/ي طبقا لتوقعات الأوبك التي تتابع تحرك مسيرة المخزونات بشكل مستمر.
وبمجرد اتفاق الأوبك والمنضمين إلى سفينتها على تمديد خفض إنتاجهم شهد سوق النفط الدولية تحسنا فارتفعت أسعار النفط في العقود الآجلة بالنسبة لخام برنت تسليم فبراير القادم إلى حوالي (64) دولارا للبرميل، بينما بلغ خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي لنفس الفترة حوالي (58.5) دولار للبرميل، وبذلك فإن أسعار النفط منذ منتصف هذا العام قد ارتفعت بنسبة 40 في المئة، وهذه النسبة سجلها خام برنت والسبب ما بذلته منظمة الأوبك والدول المنتجة المتعاونة معها من جهود لخفض الإنتاج بنسبة امتثال بلغت 15 في المئة.
هذا الاستقرار في وتيرة ارتفاع الأسعار أضاء شعلته الاتفاق التاريخي الذي هدفه الرئيس تحصين سوق النفط إنتاجا وتسعيرا لمصلحة الجميع المنتجين والمستهلكين وهو نتاج تعاون (24) دولة منتجة للنفط منها الأوبك وكل من الكونغو والبحرين ومصر وأذربيجان وكازخستان وماليزيا والمكسيك وسلطنة عمان والسودان وجنوب السودان وتركمانستان وأوغندا وأوزباكستان وغيرها.
ولا شك أن التزام أكبر دولتين منتجتين للنفط على المستوى الدولي السعودية وروسيا بمستويات إنتاجهما عام 2017 وفي عام 2018 سيدفع بأسعار النفط إلى جادة الاستقرار، فالسعودية خفضت إنتاجها بمعدل 500 ألف ب/ي وروسيا 300 ألف ب/ي، وهذا تخفيض كبير لا تقدر عليه الدول الأخرى، وبذا فإن الدولتين بمقدورهما دفع عملية سوق النفط باستمرارها بالالتزام بالتخفيضات التي لعبت دورا رئيسيا في استقرار السوق.
لكن على الجانب الآخر فإن دولا أخرى منتجة للنفط بشكل رئيسي مثل إيران والعراق وفنزويلا والإمارات والكويت والجزائر وقطر يجب أن تساهم بشكل مباشر في استقرار السوق وعدم ضخ إنتاج خارج السقف المحدد لها خاصة إيران التي يسجل عليها خروجها أحيانا كثيرة على السقف المحدد لها.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار النفط الصخري الذي يعتبر اليوم عمودا فقريا في إمدادات الطاقة الدولية فهذا الفارس الجديد مقدر له أن ينمو بمعدل 400 إلى 500 ألف ب/ي إذا بلغ خام تكساس الوسيط (60) دولارا للبرميل، وهذا يؤثر على نفوط الأوبك إذا كسر سعر نفوطها (60) دولارا فهنا قد تكون الأبواب مشرعة لدخول النفط الصخري الأسواق ومعه النفط الرملي الكندي الذي تقدر بعض المصادر أنه قد يصبح مربحا إذا قلت تكلفته بشكل كبير.
وفي مشهد توقع نمو الطلب على النفط بنسبة 1.5 في المئة سنويا والداعم لهذا الاستهلاك العالمي من النفط الذي قفز من (95) مليون ب/ي ليصبح مع قرب غروب شمس هذا العام حوالي (97) مليون ب/ي، والاقتصاد الدولي آخذ في النمو بشكل متسارع عند مستوى (3.7) في المئة.
يمكننا القول إن مستقبل أسعار النفط تبدو وكأنها مقبلة على استقرار مقبول للمنتجين الذين تعاونوا من أجل الحفاظ على سعر عادل لنفوطهم، بضخ إيرادات مستقرة هي الأخرى في اقتصادات تلك الدول بشكل يضمن التوازن النسبي في ميزانياتها خاصة الدول التي تعتمد ميزانياتها على إيرادات النفط بنسب تصل ما بين 85 - 95 في المئة ومنها بالطبع المملكة والكويت والإمارات وقطر وإيران والعراق وفنزويلا والجزائر وغيرها.
المهم أن سفينة الأوبك تبحر إلى برالأمان باعتبارها قوة اقتصادية دولية، عرفت كيف ومتى تحصن أسعار نفوطها، ففتحت أبواب الحوار غير المشروط على مصراعيه واستطاعت أن تكون فريقا كبيرا انضم إليها من خارجها ليبلغ لاعبو هذا الفريق (24) ليصبح فريقا قويا لاعبا كبيرا في سوق النفط الدولية التي لا تعرف إلا القوة.
وبذا فإن اللاعبين الكبار في سوق النفط الدولية وشركات البترول العملاقة يقف في وجهها لاعب كبير يفوقها قوة، هدفه استقرار سوق البترول الدولية وضمان سعر عادل لنفوطه بما يخدم أطراف المعادلة المنتجين والمستهلكين.
من هنا، فإن الأوبك وشركاءها يدركون عدم الإفراط في التفاؤل نتيجة ما حققه نفطهم من ارتفاع في أسعار نفوطهم، فالطريق لازال وعرا ومحفوفا بالمخاطر، ولكي يحققوا ما يهدفون إليه من استقرار في سوق النفط عليهم العض بالنواجذ على نجاحاتهم في رفع أسعار النفط الذي خرج من رحمه تخفيض إنتاجهم.
وعلى الجانب الآخر فإن بوصلة التفاهم والتعاون والتنسيق السعودي - الروسي كأكبر المنتجين يضيء جادة الطريق إلى مرحلة توازن سوق نفطية دولية مدعومة بتوازن نسبي في العرض والطلب، وعندها تجنى الثمار.
والله ولي التوفيق.
نقلا عن الجزيرة